الجغرافية لا تكفي “اغتراب الهوية”
2025/05/01
منتصر صباح آل شمخي الحسناوي
في كل حقبة تاريخية تُحدث الهوية وفق شروط الزمن، فما هي إلا مرآة عاكسة لتفاعلات الجماعة مع الأحداث والسياسات والمعايير الثقافية المتغيرة التي قد تؤصل أو تستنزف تراثها. ولأنها كذلك، فهي ليست جوهراً ثابتاً، وإنما تشكيلٌ ديناميكي يتأثر بتحولات العصور وتبدّل السياقات. وعلى مستوى الفرد أو الجماعات فإن التحولات الجغرافية النزوح أو الهجرة بمعنى الغياب عن الأرض أو الانقطاع عن التراث يكمن ان يكون عامل اساسي لاغتراب الهوية واستنزاف موروثاتها او فقدها عبر الزمن، أحياناً يكون ذلك ايضاً داخل حدود الجغرافية ذاتها، فهي غير كفيلة لصون الهوية من التصدع أو الغياب أو بمنح الإنسان شعور الانتماء “مهما كانت عريقة”.
حين يشعر الفرد بأن الوطن لم يعد وطناً، والهوية لم تعد مأوىً، بقدر ما تشكل عبءًا أو فراغاً، وهذا ما يمكن تسميته بـ”اغتراب الوطن”، في هده الحالة الغربة تكفيها قطيعة شعورية مع الانتماء.
يشير الدكتور حنفي حسن في كتابه “الهوية” إلى أن هذا النوع من الاغتراب هو الوجه الآخر لفقدان الهوية أو لنقل: التجلي الأوضح لتصدعها.
ويفصّل أنواعه إلى أربعة مسارات رئيسية: وجودي، اجتماعي، ديني، وسياسي، وكلها تتخذ من الإنسان مادتها الأولى ومن الشعور بالفقد مادتها الجوهرية.
الاغتراب الوجودي
هو ذلك الفراغ الذي لا يسكنه أحد، حين يُسأل الإنسان في لحظةٍ صادقة “من أنت؟”، قد لا يجد في ذاته جواباً، يكون في قلب تجربة الاغتراب الوجودي. ليس بالضرورة أن يكون مشرداً أو مهاجراً، فقد يكون في بيته وبين أهله وفي مدينته، لكنه يَّشعر بأن وجوده فارغ من المعنى، وأن هويته خالية من الجوهر.
هنا، لا تعني الهوية ما كُتب في وثيقة رسمية، بقدر ما يتحقق في التجربة الإنسانية من وعي بالذات واندماج في الحياة.
ومن يفقد ذلك تغدو أيامه أشبه بمحاولة مستمرة لتثبيت معنى زائل أو التعلق بظلّ لا جسد له.
الاغتراب الاجتماعي
أما الاغتراب الاجتماعي، فهو التجلي الأشد حدةً حين لا يشعر الفرد بأنه جزء من النسيج العام. تتغير القيم بسرعة، وتُستبدل المرجعيات دون تمهيد، ويُعاد ترتيب سلم الأولويات في المجتمع بطريقة تجعل من لا يجاريها، يشعر وكأنه من عصر آخر أو من بيئة غريبة. وتزداد هذه الغربة حين تتحول العلاقة بين الفرد والمجتمع إلى علاقة استخدام واستنزاف لا علاقة مشاركة، إذ لا يُسأل عن حاجته بقدر ما يُطالَب بالتكيّف مع المتاح. وهنا، تنمو مشاعر العزلة والانكماش، ويغدو الانتماء مجرد غلاف لا روح فيه.
الاغتراب الديني
طقوس بلا جوهر في سياق هذا الاغتراب، وهو أحد أكثر وجوه الاغتراب التباساً، إذ لا يحدث نتيجة رفض الدين أو الانفصال عنه، وانما على العكس يظهر أحياناً في غمرة الالتزام الشكلي به.
حين تتحول العبادات إلى طقوس خالية من المقاصد، وتُقدَّم المظاهر على الجواهر، يغترب الإنسان عن البُعد الروحي الذي يشكّل أساس العلاقة بينه وبين إيمانه، ويتحول النص إلى سلطة، لا مصدراً للرحمة والفهم.
ويُستخدم لفرض الهويات لا لفهمها. هذه الغربة تصنع فجوة بين الإنسان وما يعتقد أنه يؤمن به، إذ يغيب البعد الوجداني في العلاقة ويُستبدل بالامتثال الحرفي.
الاغتراب السياسي
الانفصال عن الفعل هو أحد أكثر أشكال الاغتراب تأثيراً في تشكل الهوية الجمعية.
حين يتحول الوطن إلى سلطة قاهرة والمؤسسات إلى أدوات قمع، يشعر المواطن أنه يُحكَم باسمه دون أن يكون له صوت وتُبنى القرارات فوق رأسه لا بشراكة منه.
في هذه الحالة يفقد الانتماء بُعده الحي ويصبح الحديث عن الوطنية خطاباً للاستهلاك.
وحين تتحول السياسة إلى وسيلة إقصاء بدل أن تكون أداة تعاقد تغترب الهوية عن ذاتها، ويبدأ الإنسان بالبحث عن انتماءات بديلة ” طائفية أو إثنية أو حتى خيالية” .
في جميع هذه الحالات، يبيّن المؤلف أن الهوية لا تموت، لكنها تتقوقع أو تنفجر.
تتقوقع حين تنكفئ على ذاتها، وتتحول إلى هويات فرعية ضيقة تحتمي بالخوف وتغذي الكراهية. وتنفجر حين تعجز عن التكيف فتتحول إلى فعل احتجاج، كما في ظاهرة العنف أو التطرف أو حتى الإدمان والهروب من الواقع.
وتظل النتيجة واحدة: الانفصال عن الذات وعن العالم في آنٍ واحد.
في ضوء ما تقدم، لا يُمكن اختزال الهوية في موقعٍ جغرافي أو جملةٍ من الرموز، بل هي نتيجة لتفاعلٍ حرّ بين الإنسان ومحيطه وبين ما يؤمن به وما يُتاح له.
والغربة الحقيقية في فقدان العلاقة الحيّة مع الوطن، فحين لا تجد الهُوية من يحتضنها تغدو الغربة قسرية، حتى وإن كُتب في بطاقتك “مواطن”.
فالهوية كالنبتة إن تمنع عنها الضوء تضعف وترتخي جذورها أو تُعد لها ما تستحقه من كرامة، تكون قادرة على التجدد والنمو اعتماداً على عمق جذورها.
الإنسان حين يشعر بأنه جزء من وطنه، يصبح قادراً على أن يزهر في أي أرض.