القبر جذرٌ أخير
2025/05/05
منتصر صباح آل شمخي الحسناوي
كنت في زيارةٍ قصيرة إلى دبي، وفي إحدى الامسيات التقيت بأصدقاء من العراقيين الذين مضى على اغترابهم أكثر من ثلاثين عاماً.
جلسنا في مقهى “العزاوي” ذاك المكان الذي يختصر الوطن في تصميمه البغدادي والاغاني العراقية مع صوت زار الطاولي ، واستكان چاي الحامض.
كان الحديث متنوعاً حول مواضيع عدة ، وصلت بنا الى سؤال عابر: “أين تُحب أن تُدفن؟”
سكت الجمع لبرهة، ثم قال أحدهم : “ أني وصيت أولادي يدفنوني هنا بالامارات، حتى لا أُثقل عليهم مشقة السفر إلى العراق لزيارة قبري ، ما يهمني وين يُدفن جسدي لاني ساعتها اكون منقطع عن الحياة، القرب لهم لا لي.”.
كلماته كانت مزيجاً من الواقعية والحنان، لكنها فتحت داخلي تساؤلاً أعمق: هل مكان الدفن مجرّد إجراء؟ أم أنه امتداد للهوية؟
هل القبر هو نهايةٌ صامتة أم بدايةٌ جديدة في الذاكرة الجمعية؟
الاعتقاد بما بعد الموت شأنٌ شخصي، يتفاوت حسب الدين والثقافة والتجربة، كثيرون يرون أن الميت لا يشعر ولا ينتفع من قرب المكان أو بعده، وأن القبر يصبح رمزاً للأحياء لا لصاحبه، هذه نظرة عقلانية تتعامل مع الدفن بوصفه مسألة عملية لا روحانية.
في مجتمعات كثيرة يُدفن الإنسان حيث يعيش دون ارتباط بالمكان ودون التفكير في الإرث الرمزي لهذا الاختيار.
لكنّ القبر في ثقافتنا ليس بهذا الحياد، هو مساحة رمزية، موضع صغير من التراب تُغرس فيه أعمق جذورنا ،يحدد من نكون وإلى أي سردية ننتمي وأي ذاكرة سنترك لأبنائنا حين تنقطع أصواتنا.
في الجلسة نفسها، قال صديق آخر: “أني وصيت أولادي يدفنوني في مقبرة وادي السلام بالنتيجة اني عراقي وهذا بلدي، وأريد أرجعله جسداً مثل ما خرجت منه حيّاً.”
وصيّته لم تكن مجرّد اختيار وانما إعلان بالانتماء بلغةٍ لا تحتاج إلى شرح. وادي السلام في ذهنه، ليست مقبرةً فقط بل صورةٌ مكثّفة لمعنى الوطن وامتدادٌ لهويةٍ تُنقش في الذاكرة لا في الجوازات.
وهنا تتداخل الإشكاليات بين الاعتقاد والانتماء.
الأول يرى أن القبر لا يعني شيئاً لمن مات.
الثاني يؤمن بأن القبر يعني نوع من الانتماء والعقيدة له.
ان اختيار مكان الدفن في زمن الشتات بات خياراً يحمل تداعيات تتجاوز الجسد، لتصل إلى الأثر الذي نتركه في خرائط الآخرين.
الدفن في أرض الغربة قد يُسهِّل على الأبناء زيارة القبر لكنه قد يختزل علاقتهم بالوطن إلى ذكرى بعيدة.
حين يُقال: “أبونا مدفون في دبي ( مثلاً) ”، تكون العبارة حيادية في وقعها، أما حين يُقال: “أبونا مدفون في النجف أو بغداد ….. ” فإنّها تعبّر عن انتماء لا زال ينبض.
الأحفاد حين يسمعون أن جدّهم دُفن في بلده، ستتكوّن لديهم صورة غير منظورة عن الجذور، عن العلاقة الأولى بالأرض، عن المكان الذي ينبغي أن يُحترم لأن فيه من سكنه قبلهم.
من القبر يبدأ أحياناً ترميم ما تصدّع من الهويات، وربما في عالمٍ تتداخل فيه الجغرافية وتضيع فيه الخرائط، يكون القبر هو العنوان الوحيد الذي لا يُزوَّر.
فبين ترابٍ يعرف اسمك وآخر لا يعني لك شيئاً، تنشأ فجوة بين الأحياء الذين يبحثون عن أنفسهم في وجوه من سبقوهم.
هذا الجذر الأخير، حين يُغرس في أرضٍ فيها اصل الانتماء، يتحوّل إلى إشعار دائم بأن للهوية امتداداً لا ينتهي بالموت، وأن الانتماء وإن غاب في تفاصيل العيش قد يُبعث من جديد عند شاهدٍ حجري، تُقرأ عليه أسماء من كانوا، وتُستعاد معهم الأسئلة الأولى: من نحن؟ وأين نعود؟ وما الذي سنتركه لمن بعدنا؟