شارع الرشيد
2025/06/17
منتصر صباح آل شمخي الحسناوي
شريان من الحجر يسري في جسد المدينة القديمة، بإمتداده من الباب الشرقي حتى ساحة الميدان.
كل زاوية فيه تحفظ صدى زمن مرَّ، وكل رصيف يَّشهد على مرور وجوهٍ كانت تصنع البلاد بكلماتها وخطواتها.
في بدايات القرن العشرين، وُلد شارع الرشيد وسط مشروع لتحديث بغداد. رسمته يد الاحتلال البريطاني، وباركته ذاكرة العثمانيين في لحظاتهم الأخيرة. اختير له اسم الرشيد بعد اسمه الاول "خليل باشا"، فانفتح على التاريخ من بوابة الخيال العباسي، ثم توزعت على جوانبه الأبنية والأسواق والمقاهي والصحف والمسارح.
شيئاً فشيئاً، صار الشارع أشبه بمنصة لا تغلق ستائرها. مرّت فيه مواكب الملوك، وتجولت بين أرصفته النخب الثقافية والسياسية.
اعتادت عليه عيون البغداديين حتى غدا جزءاً من نسيجهم اليومي، في مقهى الزهاوي، كان الشعراء يتبادلون القصائد، وفي مقهى حسن عجمي كانت النقاشات تُدخن مثل نراجيل الصبر، وفي سينما روكسي كانت العائلات تسترق لحظاتٍ من الدهشة، فيما تتوالى العناوين على الشاشة.
أشخاص من مختلف العصور مرّوا من هنا. الملك فيصل الأول سار ذات مرة بين حشودٍ استقبلته من نوافذ الشارع، وتجوّلت غيرترود بيل بخرائطها وأفكارها بين مبانيه. زاره الرئيس جمال عبد الناصر، وكتب عنه جبرا إبراهيم جبرا والسيّاب ونازك الملائكة، وترك كلّ منهم أثراً يشبه توقيعاً في دفتر طويل.
كان شارع الرشيد مساحةً تمشي فيها السياسة إلى جوار الفن، وتستريح فيها الذاكرة على مقاعد الخشب المطلة على الحياة. عُلّقت على جدرانه يافطات الجرائد، وتوزعت بين رخامه المحلات الراقية وصيحات الموضة وأصوات الباعة،كان الشارع مساحةً للحوار والملاحظة والانتماء.
تغيّر وجه الشارع مع مرور السنين. الأحداث الكبرى عبَرت منه كما يعبر النهر من منعطفاته. التحولات السياسية، الحروب، الإهمال، كلها تركت عليه علاماتٍ واضحة، انطفأت أضواء السينمات وغلقت أبواب معظم المقاهي، وبدت بعض الأبنية كأنها تنتظر عودة زمنها القديم.
في عام ٢٠٢٣، ظهرت بارقة أمل، أطلق رئيس الوزراء محمد شياع السوداني مبادرةً نبض بغداد لإحياء الشارع ضمن رؤية تهدف إلى ترميم ما تهدّم، وإعادة فتح الطريق أمام الناس والذاكرة. الحملة التي تنفذها مؤسسات خاصة ومساندة من مؤسسات ذات العلاقة كالبنك المركزي وامانة بغداد ووزارة الثقافة والسياحة والاثار وباشراف لجنة عليا من مكتب رئيس الوزراء تهدف الى إصلاح البنية التحتية، وتنظيف الأرصفة، وتشجيع الفعاليات الثقافية، وكان ذلك بمثابة دعوة مفتوحة للمدينة كي تتذكر نفسها من خلاله.
شارع الرشيد لا يُقرأ من واجهاته فقط، بل يُقرأ من العيون التي مرت به، من القصائد التي كُتبت فيه، من الأحاديث التي جرت على أرصفته. هو امتدادٌ حيٌّ لذاكرة بغداد، بصوتها، بوجوهها، بتقلباتها، وهو اليوم ينهض ببطء كمن يعود من غفوة طويلة ليجد المدينة ما زالت تنتظر عودته.