التطيّر والهوية التراثية
2025/04/18
منتصر صباح آل شمخي الحسناوي
التطيّر في الثقافة العراقية منظومة رمزية متكاملة تطلّبت على مرّ العصور وسائل متنوّعة لمواجهتها، إذ تحوّلت مع الزمن إلى سلوكيات وطقوس بأشكال مختلفة توارثها الناس عن حضارات ضاربة في القدم، حملت فيها دلالات الخوف والرجاء وتحوّلت إلى مفاتيح للطمأنينة.
يشير طه باقر في تفسيره للطقوس السومرية إلى أنّ ظاهرة التطيّر ارتبطت بملاحظة الإنسان للأحداث الطبيعية وما يتبعها من نتائج فحاول صياغة استجابة رمزية لكل علامة، من هذه الحاجة نشأت الطقوس الوقائية سواء عبر الكهنة أو في بيوت العامة، لتكون أداة لردّ الشر وتخفيف أثر المجهول.
شهدت حضارات ما بين النهرين أنماطاً متنوّعة من طقوس الحماية، تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد غالباً على ألواح طينية صغيرة كُتب عليها تعاويذ لطرد الأرواح الشريرة، كانت تُدفن عند العتبات، أو تُعلّق عند الزوايا.
وقد كشفت حفريات نيبور وأور وبابل عن هذه الألواح، التي اعتُبرت أقدم أشكال ما يُعرف لاحقًا بـ “الحرز”.
أما الآشوريون فوضعوا تماثيل صغيرة لآلهة الحماية (مثل بازوزو ولاماشتو) خلف الجدران أو تحت الأرضيات، كوسيلة لصدّ الشر وهذه التماثيل كانت تُرافق بتعاويذ شفوية ونصوص تُقرأ أثناء الطقس.
ايضاً كان البخور يُستخدم لتطهير المكان، من خلال حرق العرعر واللبان لطرد الطاقات المؤذية.
ويظهر في نصوص مسماريّة آشورية أنّ الكاهن أحياناً كان يطلب من الشخص المتشائم أن يُبدّل موقع نومه أو ترتيب فراشه، كنوع من كسر النسق الذي جلب الشؤم، وهي ممارسة لا تزال متداولة شعبياً اليوم في هيئة “تغيير الطريق” او تغيير “عتبة البيت” اي مكان بابه الرئيس.
النذر الوعد المشروط للحماية
ويُعدّ النذر من أكثر وسائل الوقاية شيوعاً في التراث ويستند إلى فكرة المقايضة مع الغيب ” قربان رمزي مقابل النجاة.”
تتنوع النذور بتنوع البيئة والطبقات الاجتماعية قد تكون امور بسيطة كنذر الشموع، الخبز، طبخ (زردة، بحت، الخ) او ذبائح، وهناك المشاركة الجماعية في تنفيذ النذر كـ “صينية زكريا”.
هناك ايضاً طقس ذبح (الفدوة) عند قدم العرسان الجدد او المريض الذي تشافى او الآتي من الحج، أو لتدمية باب المنزل الجديد أو عجلات السيارة الجديدة، وهو استمرار رمزي لممارسة قديمة كانت تُلطّخ فيها الأبواب بدم الذبيحة كعلامة حماية في الحضارات القديمة.
تتمثّل قوة النذر في كونه مشهداً جماعياً لا فردياً، غالباً يشارك فيه الناس وتتوزع فيه الرموز ويتحوّل من استجابة فردية إلى طقس اجتماعي يخفّف القلق ويستدعي الأمل.
الورقة التي تحرس النفس
الحرز امتداد للرقم الطينية ويُمارَس بوصفه درعاً شخصياً ضد التطيّر، يُكتَب على ورقة وتُضاف إليه آيات أو رموز ويُغلّف بقماش ويُعلّق في “الرقبة، الجيب، السيارة، تحت وسادة” ومنها الذي يُذاب ويُشرب.
ولا يُصنع الحرز عند الجميع إذ يُنسب إلى شخص معروف بـ “حلّ العُقد”، أو ” سيّد ” يُقال إن له ” صاحب اليد البيضاء”، وهي امتدادات معاصرة للكاهن المختص في تقاليد العراق القديم.
ادفع صدقة يردّ الله عنك
وتُعدّ الصدقة من أكثر وسائل الوقاية شيوعاً في وقتنا الحالي، وتُقدَّم عادة تحت عنوان “دفع البلاء”.
قد تكون مبلغاً بسيطاً، أو وجبة طعام توزَّع، أو قنينة ماء بارد تُترك للمارة. الفكرة لا تقوم على القيمة المادية بقدر ما تتعلق بالقناعة الشعبية بأن الصدقة تفتح باباً للحماية، وتكسر دائرة القلق.
وهناك ممارسات التبخير بالحرمل وقت الغروب، و رش الماء خلف المسافر عند خروجه من البيت وهي عادات رافقت معظم البيئات العراقية.
ورشّ الملح في زوايا المنزل بعد المشكلات، أو عند الانتقال إلى بيت جديد، باعتباره طقساً يذيب الطاقة السلبية، ويُقال: “الملح يبلع الشر”.
كما يُمارَس طقس رمزي آخر في نهاية شهر صفر، يُعرف بطقس “كسر الماعون”، حيث يُكسر وعاء فخاري قديم أو صحن زجاجي خارج البيت، في إشارة إلى كسر النحس وخروج الحزن. ويُعتقد أنّ هذا الفعل يفتح الطريق لفترة أكثر تفاؤلاً في الأشهر التالية.
اما الخواتم ذات الأحجار الكريمة تتخذ كوسيلة للحماية، مثل العقيق، الفيروز، الزمرد، واليشب، ولكل حجر وظيفة يعتقد بها بعض الناس: دفع الحسد، حماية من الظلم، جلب الرزق.
ومن اهم روادع التطيّر “قراءة الآيات” ولا سيما وآية الكرسي وسور المعوذات و”الدعاء”، عند الشعور بالقلق أو قبيل السفر، وهي ليست كلمات عابرة، بل أدوات معنوية تؤسس لحالة من الاطمئنان وتربط الفعل الشعبي بالإيمان الروحي.
المعالجة كإرث شعبي لا يُلغى
معالجات التطيّر في التراث العراقي لم تُبنَ على وهّم وانما على تراكم رمزي يحمل وظيفة واضحة “تهدئة النفس أمام المجهول”. “النذر، الحرز، الصدقة، رشّ الماء، تبخير المكان” كلها أدوات لا تُغيّر القدر لكنها تمنح الإنسان شعوراً بأنه فاعل لا مستسلم.
ومع تغيّر الزمن، قد تتراجع بعض هذه الممارسات أو تخف حدّتها أو تتغيّر لغتها، فصندوق التبرعات الإلكتروني قد يحلّ محلّ صينية الحلوى، ورذاذ العطر المعطّر قد يُستخدم بدلاً من تبخير الحرمل، لكنّ الدافع واحد “حاجة الإنسان لأن يُطمئن قلبه حين يعجز المنطق”.
لكنها لا تختفي من الأعماق، تُستدعى تلقائياً حين تضيق الوسائل وتعود لتملأ الفراغ حين تعجز الكلمات.
هي مفاتيح قديمة للطمأنينة حافظ الكثير منها على معناها ونجَت أخرى من النسيان.