إعمال العقل في الخبر: درع معرفي ضد ثقافة الإلغاء

2025/05/27

منتصر صباح آل شمخي الحسناوي

أثناء حضوري الافتراضي لمحاضرة ألقاها المفكر العربي يوسف زيدان، بدعوة من اتحاد الأدباء والكتّاب العراقيين، لفتني حديثه عن ضرورة إعمال العقل في نقل الخبر، كان يتناول هذه المسألة من زاوية فلسفية و تاريخية أو حتى أدبية كما اعتاد في مداخلاته العميقة.

لكنّ ذهني المنشغل بتحليل مظاهر ثقافة الإلغاء التقط هذه المفردة كأداة حيّة ينبغي استدعاؤها إلى الحياة اليومية إلى لحظات التلقي السريعة ومنصات التواصل، وإلى أحكامنا التي نبنيها " كثيراً " على خبر لم نُعمل فيه العقل.

الخبر لا يُؤخذ على علاته وأخطر ما فيه قابليته للتأويل، للانتقاء، للقطع من سياقه.

حينها، يتحول الخبر الى مادة خام لموقف جاهز، غالباً ما يُبنى بعقل جمعي مضطرب، وفي هذه البيئة، تغدو ردود الفعل أسرع من التفكير، ويصبح المتلقّي شريكاً "عن غير قصد " في إلغاء الآخر أو تشويهه أو تجريده من إنسانيته، بناءً على رواية ناقصة أو متحيزة.

قال ابن خلدون في مقدمته:

“الخبر إذا تلقاه الجمهور بالقبول وكان في ظاهره مخالفاً للعقل وجب رده أو تأويله تأويلاً يرفع الاستحالة.”

وهذه دعوة للعقل، للتمهّل قبل الحكم. فكم من خبر روّج لعقوبة أخلاقية أو اجتماعية أو حتى قانونية بحق فرد أو جماعة ثم تبيّن لاحقاً أنه مبتور أو مفبرك أو منقول بسوء نية!

ثقافة الإلغاء، تبدأ من قابلية التصديق التلقائية التي تضعف في ظلّها ملكة التمحيص الفردي. فحين نُسلّم بصدق كل ما نُقل، نكون قد فرّطنا في أول أدوات الوقاية: العقل.

وقديماً قالوا:

“العقل ميزان النقل، ومن عطل الميزان خان العدل.”

وفي صيغة معاصرة:

“اختبر الخبر كما تختبر الفكرة، فالأخبار الكاذبة تصنع أفكاراً زائفة، والأفكار الزائفة تصنع أحكاماً جائرة.”

في زمن ما بعد الحقيقة تعدى الخبر ان يكون شأناً صحفياً أو أرشيفياً انه أداة تغيير قد تُسهم في صعود فكرة أو اغتيال سمعة أو إسكات صوت.

ومن هنا، يصبح إعمال العقل في الخبر سلوكاً أخلاقياً لا مجرد فضيلة معرفية.

حين نقرأ منشوراً أو نسمع تعليقاً أو نُبلّغ عن “قضية رأي عام”، فإن الخطوة الأولى يجب أن تكون السؤال لا الموقف، والتحقق لا الانفعال والنظر في الخلفية لا في الانطباع الأولي.

هذه المهارات البسيطة هي اليوم دروع ضد المشاركة غير الواعية في "الإلغاء" التي تؤسس لنمط وعي يحترم الآخر ولا ينجرّ وراء ردود الفعل الجماعية.

ما بدأ كمداخلة فلسفية من يوسف زيدان انفتح في ذهني كمفهوم يمكن أن يُستثمر في كل لحظة نتلقى فيها خبراً، لا فقط عن شخصيات عامة أو قضايا كبرى وانما في أحاديثنا اليومية وفي ما نسمعه عن زميل أو نقرأه عن جهة أو يُروى لنا. لأن الأذى يصدر دوماً من عقل لم يُستعمل.

عليه ان إعمال العقل في الخبر ليس أداة من أدوات المثقف او النخب بقدر ما هو واجب علينا جميعاً في زمن يهدد فيه النقل السريع واللاواعي المعنى والعدل والكرامة.

جريدة الزوراء