يبتعد الكاتب ليقترب النَّص
2025/10/25
منتصر صباح آل شمخي الحسناوي
كان يومُ الجمعة فرصةً مفيدةً لأكسب قليلاً من الوقت للقراءة والكتابة وأيضاً محادثة الأصدقاء ، ومنها ما جمعني بالدكتور رائد عبيس بعد اطّلاعه على إحدى مقالاتي، فقال بمحبةٍ وهدوء:
"سأجمع هذه المقالات، فهي تنتمي إلى مدرسةٍ قريبةٍ من موت المؤلف."
توقّفت عند عبارته، لم أكن قد سمعت بهذا المصطلح من قبل، أو لعلها ذاكرتي المفاهيمية التي لا تحفط الكثير من الاسماء غير أنّه ترك في داخلي فضولاً لمعرفة معناه.
أن يموت المؤلف؟ أهو موتٌ رمزي؟ أم إعلانٌ لاحتمالية موتِ قلمه ؟
لا شيء صعب مع وجود هذا الدماغ الإلكتروني بين أيدينا، فسارعت إلى البحث عن المفهوم، فقرأت أنّه ظهر عام 1967 عبر مقالٍ بعنوان "موت المؤلف" للمفكر والناقد الفرنسي رولان بارت، الذي دعا فيه إلى تحرير النصّ من سلطة كاتبه، مؤكّداً أنّ المعنى لا ينبغي أن يُقاس بما أراد المؤلف قوله، وإنما بما يراه القارئ حين يقرأ،
فالنصّ في نظره ليس رسالةً مغلقةً من كاتبٍ إلى متلقٍّ، بل هو أقرب إلى لوحةٍ تجريدية أو هو كيانٌ حيٌّ تتكاثر معانيه بتعدّد العيون التي تنظر إليه.
وجدت في هذه الفكرة شيئاً من الحقيقة التي لم أكن أقصدها يوماً. فالمقرّبون منّي يقولون دائماً إنّهم يجدون في ما أكتب غير الذي أقصده، وما أكتب قد يبدأ بي، لكنّه لا يبقى بالضرورة لي، فالنص يعيش في قراءات الآخرين، يتبدّل معهم ويتّسع بتأويلاتهم.
يقرأ أحدهم نصاً واحداً فيراه دعوةً بيئية، ويقرأهُ آخر فيراه نداءً للإنسان، وثالثٌ يراه بحثاً عن الاعتدال.
تلك التعدّدية تمنح النصّ حياةً جديدة، هي الحياة التي نطرحها بذات القصد من غير وعيٍ بالمصطلح.
قد يكون ما في النصّ انعكاساً لصاحبه لكنَّ نضجه عندما يكون نافذةً تطلّ على ما هو أبعد منه.
أن أستخدم التجربة الشخصية – كما في بداية هذا المقال مثلاً – لاختبار الفكرة أو تمهيد الطريق إليها، لا غايةً للتعبير عن ذاتي.
وربّما هذا ما قصده بارت حين قال: "ولادة القارئ تكون على حساب موت المؤلف".
فالمؤلف يتوارى خلف النصّ ليترك المجال لمعنى أوسع من ذاته، وما أراه أجمل في هذا التواري أنّه ليس إنكاراً للكاتب، بقدر ما هو نوعٌ من النضج الروحيّ يتيح للنصّ أن يعبّر عن الناس لا عن صاحبه فقط.
ثمّة مرحلةٌ من الإدراك تنضج مع الكاتب حين يدرك أنّ النصّ الذي يُكتب ليبقى ملكاً لصاحبه يضيق مع الوقت، أمّا النصّ الذي يُكتب ليكون ملكاً للقارئ فيتّسع ويعيش.
عندها يصبح القارئ امتداداً للفكرة، فيما يكون الكاتب مجرّد عابرٍ في طريق المعنى، أدّى دوره، لأنّ الأثر صار أصدق من التوقيع.
كمن يزرع شجرةً في الأرض، يسقيها مرةً ثم يتركها تنمو بظلّها وثمرها، تلك الشجرة قد لا يعرف المارّون من زرعها، لكنّهم يستظلون بها، وهذا يكفي.
وهذا بصدق، ما أؤمن به: الحرف الذي يضيء ولا يُقيّد، يقدّم الفكرة لا الذات، ويبحث عن انسجامٍ بين الإنسان ومحيطه.
نعم، لعلّ ما قاله الدكتور رائد كان أكثر من ملاحظةٍ نقدية، كان مرآةً لما أحاوله منذ البداية: أن أكتب دون أن أفرض نفسي على القارئ أن أجعل الكلمة حرةً بما يكفي لتجد طريقها إلى الوجدان، وأن أؤمن بأنّ الاعتدال ليس موقفاً في الفكر فقط،وإنما بمسؤولية التوعية والتثقيف لها.
هكذا فهمتُ أنّ موت المؤلف هو أن ينسحب الكاتب قليلاً ليُفسح مكاناً للنصّ أن يعيش، وأن يكتفي بأن يرى أثره في عيون الآخرين لا في حروف اسمه.