همسات الهوية في أروقة المتحف الوطني

2025/04/21

منتصر صباح آل شمخي الحسناوي

من أجمل الاماكن التي احب زيارتها "المتحف الوطني العراقي" ، ذلك الصرح الذي يُعد من أغنى متاحف العالم بمحتواه الذي يحمل روح حضارات بأكملها.

بمجرد وصولك بوابة المتحف يستقبلك "الاله نابو " وما إن تدخل سترى على جانبيك أسود الحماية (لاماسو)، شامخة عند البوابة قاعة اشور كما لو أنها ما زالت تحرس مجد الملوك والجدارية الاشورية التي تمثل بلاد اللبن والعسل " بلاد آشور" ارض الخصب والجمال .

وفي القاعات الاخرى ستجد تمثال الأم السومرية بملامحها التي تتجاوز الطين.

وما أجمل ان تتأمل " قيثارة أور" التي عزف عليها السومريون أولى أنغام الحياة ، ولا شي يضاهي عمق اولى الاساطير الموجودة في لوح "حلم كلكامش" ، و تحفة المتحف وسيدته "فتاة الوركاء" و لطالما سمعنا عن "اللآت والعزى" التي سنجدها بين اثار مدينة الحضر في المتحف ، والكثير من المسلات الحجرية التي سُطّرت فيها أولى القوانين وانظمة وتعاليم الحضارات ، والاثار الإسلامية بمراحلها التي تروي زمن ازدهار آخر ...

هي رحلة لساعات قليلة تروي قصص آلاف السنين عبر الزمن، التاريخ بما تراه العين ولكن الأهم أنها كانت رحلة في الذات العراقية.

وهنا تساءلتُ، بمرارة: لماذا لا نحمل كل هذا الإرث معنا في المدارس؟ في بيوتنا؟ في وعينا؟

لماذا تُقدَّم هذه الكنوز وكأنها تخص “زمناً غريباً” لا يمت إلينا بصلة؟

سالت مجموعة من اصدقائي وعائلتي هل زرتم المتحف ؟ قليلٌ منهم من زاره .

كان السؤال التالي لمن سافر الى مصر او تونس او اوربا هل زرتم متاحفهم كان الجواب طبعاً وكيف لا نزوها ! .

الغريب ان منهم من زار تلك المتاحف دون ان يزور المتحف العراقي .

على الرغم من أن العراق هو مهد الحضارات، نجد أن الاهتمام بآثاره محصورة بالنخب والقليل من المهتمين ولعل لذلك عدة اسباب تكمن بفقر المناهج التعليمية باهمية تلك الاثار وحتى في وعينا الجمعي.

إذ تمر الحضارات الرافدينية في المدارس كخبر عابر لا يُطلب من الطالب أن يراها جزءًا من تكوينه.

أما في الفضاء المجتمعي والديني، فغالباً ما يُنظر إلى التماثيل والنُصُب بريبة أو بتجاهل واذا ما احسنا الظن بعدم اهتمام، وكأنها رموز وثنية لا تستحق إلا النسيان أو التهميش في حين انها تمثل ذاكرة شعب، وشاهد على هوية عمرها آلاف السنين.

الأخطر من تغييبها، هو ما ينتج عن هذا الغياب من فقدان لرابط مشترك لأبناء الوطن الواحد في وقت يتصاعد فيه خطاب الكراهية الطائفي والمذهبي، عندها تصبح الآثار وسيلة ناعمة لكن فعّالة لإعادة بناء الشعور بالوحدة الوطنية.

لا أحد يمكنه أن يدّعي ملكية تمثال سومري أو لوح آشوري دون الآخر؛

هذه الرموز تنتمي لنا جميعاً، دون استثناء، إنها اللغة الوحيدة التي تحدثنا بها جميعاً، قبل أن نُقسم بلغات الطوائف والمذاهب.

حين يقف العراقي، أياً كانت خلفيته، أمام زقورة أور او اثار بابل او اشور يرى جذوره التي سبقت الدين والمذهب والعِرق.

يرى شعباً كان يبحث عن العدالة، عن الخلود، عن السماء… تماماً كما نفعل نحن اليوم.

إن إحياء هذه الذاكرة، ليس ترفاً ثقافياً، بقدر ما هي ضرورة وطنية.

ان ادراج مواضيع ونشاطات معنية بالتراث الحضاري واهمية الاثار ضمن المناهج ضرورة، كما ان تشجيع المنتديات الاجتماعيّة والدينية وحتى العشائرية بوصف الاثار شاهداً على المسيرة الإنسانية .

علينا أن نروي لأطفالنا أن جذورهم ضاربة في عمق الزمان، وأنهم ليسوا أبناء حروب فقط بل أيضاً أبناء حضارة.

ربما إذا تذكرنا من كنّا… سنتفق على ما نريد أن نكون .