حين نُعيد اختراع العجلة

2025/04/15

منتصر صباح آل شمخي الحسناوي

العقل الجمعي نهر عميق الجريان، تشكّل من التراكم التاريخي للموروثات وظلّ أسير تردّدٍ أبدي بين الرغبة في التغيير والخوف من نتائجه.

هو لا يُرى بالعين ولا يُلمس باليد لذا كان تشخيصه صعباً وعلاجه أصعب لكنه ليس مستحيلاً.

نشأ هذا العقل على خريطة جغرافية متشابكة إذ تتقاطع القبيلة مع المدينة والمذهب مع الدولة والذاكرة مع الجرح المفتوح.

وحين نقول “عقل جمعي”، فنحن لا نشير إلى إجماع بل إلى شبكة من التصوّرات والعادات والاستجابات التي يتبنّاها الناس من غير وعي ويتصرّفون بموجبها كأنّها قدراً لا فكاك منه.

وفي لحظة التوتّر يعود هذا العقل إلى أكثر أشكاله بدائية “خائفاً،محتشداً، منغلقاً” طارداً لكل صوت مختلف.

واصبح اكثر انتشاراً ومقبوليةً وتصديقاً من خلال التقدم التكنلوجي وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي عززت ذلك بشكلٍ كبير.

عقلنة العقل الجمعي لا تبدأ بالموعظة ولا بالخطاب العالي النبرة بقدر الحاجة الى إعادة تشكيل الأدوات التي يُبنى بها هذا العقل.

وأوّل هذه الأدوات هو “المدرسة” التي ينبغي ان تكون مصنع للفكر لكنها بالواقع اقرب الى ساحةٍ للحفظ والاستظهار.

تلميذ اليوم يمارس التكرار ويُكافَأ على الجواب المُسبق دون ان يجتهد ويُشجع على السؤال.

العقل الجمعي الذي تُنتجه هذه المنظومة هو عقل خائف من الخطأ لا يغامر ولا يحتمل أن يُقال له: “أنت مخطئ”، وما لم تُجرَ نقلة نوعية في بنية التعليم تواكب التحوّل المهول في التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي فإن المدرسة ستبقى تخرّج عقلاً من الأمس في زمن يتطلّب عقلاً من الغد.

لم يعد التعلّم مجرّد تلقي بل أصبح فهم الأدوات وإتقان التفكير النقدي ومواكبة التطوّر في بيئة معرفية تتغيّر كل يوم.

ومن المدرسة ينتقل التكوين إلى “الأسرة” إذ يُلقّن الطفل منذ صغره أن الطاعة فضيلة وأنّ الكبار لا يُسألون وأنّ الحقيقة تكمُن دائماً في الجهة التي ينتمي لها.

هنا تُزرع أولى بذور “التحزّب الذهني”، الذي يرى العالم في ثنائيات: نحن/هم، صح/خطأ، أبيض/أسود.

لا وسط، لا مساحة للنقاش لا قبول بأنّ الآخر يمكن أن يكون معه بعض حق.

ثم يأتي دور “المجتمع” كأداة تكريس لإعادة إنتاج الصورة النمطية ليُبقي العقل الجمعي في منطقة الراحة ويحرمه من المواجهة مع صورته الحقيقية.

وهنا لا ننسى دور الإعلام الذي يُخدّر لا يُعالج فتارة هو مشجع للعقل الجمعي باطروحاته التي تُبقي الناس في دوّامة انتظار البطل أو القائد المُخلّص أو المعجزة القادمة من خارج المنطق.

أو بمواجهة المعتقدات بشكلٍ “مستفز، عدائي، ساخر ” كإتجاه معاكس يعمل على تعزيز العقل الجمعي والتمسك بتلك الافكار كنوع من المواجهة بإدراك أو دونه .

التحول ليس وهماً والعقلنة ليست ترفاً ، بل ضرورة للسير نحو التنمية وبناء موارد بشرية منتجة

وأوّل خطواته هي زراعة “السؤال” لا الجواب، السؤال الذي يُحرّك لا الذي يُربك فقط.

لماذا نُعيد نفس الأخطاء؟

لماذا نُقصي المختلف؟

لماذا نؤمن بنظرية المؤامرة أكثر ممّا نؤمن بقدرتنا على التغيير؟

هذه الأسئلة تُشبه الدواء المُرّ لكنها تفتح باباً نحو الشفاء.

ثم تأتي “الصدمة المعرفية” كجرعة ثانية من العلاج.

لا أحد يُغيّر رأيه لأنّك صرخت بوجهه لكن يكون ذلك حين تهتز قناعته من الداخل بـ “كتاب صادم ، فيلم يعرّي المستور، عمل مسرحي يواجه الجمهور بوجهه الحقيقي…”

كلّها أدوات تُخاطب العقل الجمعي من حيث لا يشعر وتُحرّك فيه بذرة الشك الخلّاق.

العلاج لا يتمّ بهدم الرموز التي يعتاش عليها المجتمع وانما باستبدالها تدريجياً بالانتقال من صورة “البطل المنقذ” إلى صورة “الفريق العامل”، من تمجيد الماضي إلى فهمه نقدياً، من انتظار الخارج إلى المراهنة على الذات، الرمز الجديد لا يأتي بالقوة وانما بالقدوة وبالزمن.

ولا يمكن أن نغفل دور “اللغة” في العلاج، فالعقل الجمعي يتشكّل من الكلمات قبل المواقف، الكلمات التي نردّدها دون وعي ترسم حدود الممكن والمحرّم.

حين نقول: “ما نصلح”، “احنه هيچ”، “ما يتغيّر شي”، فإنّنا نغرس في العقل الجمعي استسلاماً مقنّعاً بلغة الاعتياد. التغيير يبدأ من تغيير هذه اللغة عبر بثّ روحٍ جديدة في طريقة الحديث عن النفس والناس والوطن.

الأمل بالأجيال الجديدة ، التي لم تعش الهزيمة الطويلة ولم تتشرّب بعد ذلك القلق الوجودي المزمن.

هذه الأجيال تستحق أن تُربّى على الحرية بعيداً ازمات الخوف، وعلى التجربة دون التردّد.

التحدّي الأكبر هو أن نمنحها فرصة بناء عقلٍ جمعيٍ جديد أكثر مرونة وأقل توتّراً وأقرب إلى الواقع وأبعد عن ردّات الفعل الموروثة.

هذا التكوين الجديد يمكن ان نعزز به الهوية ونرسخها على أسس الوعي والتعدّد والانتماء الفاعل بدلاً من تركها رهينة للانقسامات أو محصورة في القوالب الضيّقة.

فلا أحد يُغيّر العقل الجمعي وحده، لكنّ كل فردٍ يعيد التفكير في المسلّمات “معلّم يُشجّع، أب يُصغي ، فنان يواجه، كاتب يزعزع الركود… ” هؤلاء جميعاً يُساهمون في العلاج.

العقل الجمعي لا يحتاج إلى معجزة بل إلى مراجعة، والشفاء لا يأتي دفعة واحدة وإنما يحتاج الى التراكم والنقاش والتجربة. وإذا كنّا قد ورثنا عقلاً متخمًا بالخوف فربما حان الوقت لنورّث أبناءنا عقلاً مشبعاً بالأسئلة.

العالم الجديد

https://al-aalem.com/opinion/عقلنة-العقل-الجمعي/