الهوية في منعطف الخوف والأمل

2025/04/08

منتصر صباح آل شمخي الحسناوي

قلّما يُطرَح سؤال الهوية في العراق من دون أن يستدعي توتر الذاكرة، فالكلمة محمّلة بإرث من الاحداث ومثقلة بصور التاريخ وتراكماته المشبعة بمفردات الولاء والانتماء المعطوب.

في بلد تتوزّع في جغرافيته الطوائف والقوميات واللغات وتتنازع فيه السرديات على تعريف الذات لا يمكن أن يُطرَح مفهوم الهوية بوصفه مسألة ثقافية فحسب، إنّه سؤال الدولة والمواطنة والعدالة لا اللغة والدين والارث فقط.

ما الذي يجعل الإنسان عراقيّاً؟ وهل يكفي الانتماء إلى الأرض أو التاريخ كي يُشكِّل رابطاً جامعاً؟ أم أنّ هذا الرابط بحاجة إلى شعور مشترك بالكرامة والمصير والمعنى؟

من هذا الباب قد تكتسب بعض القراءات الفكرية أهميّتها حين تساعد في تفكيك المفهوم وإعادة فهمه بعيون المتأمل.

في تلك القراءات، يمكن الوقوف عند ثلاث تجارب فكرية تثري جوانب من النقاش المعاصر حول الهوية:

عبد الحسين شعبان في قراءاته حول المواطنة والهوية

أمين معلوف في “الهوية القاتلة”

جان فرنسوا بايار في “أوهام الهوية”

هذه التجارب رغم اختلاف منطلقاتها، تُضيء جوانب متباينة من سؤال الهوية ولا سيما حين يُطرح في بيئة مثل العراق.

عبد الحسين شعبان: المواطنة أساس الهوية الجامعة

في أطروحاته وكتاباته الحقوقية والفكرية، يطرح عبد الحسين شعبان مقاربة واضحة تقوم على أن الهوية الوطنية لا تتأسس خارج إطار المواطنة، إذ يرى أن العدالة والمساواة هما الشرطان اللذان يُنتجان شعوراً بالانتماء ويجعلان التنوع عامل غنى لا سبباً للتنازع.

وينبّه من وجهة نظر قانونية وانسانية إلى أن المواطن حين يشعر بالغُبن أو التهميش ينكفئ نحو طائفته أو عشيرته أو قوميته، لا لأن تلك الهويات أكثر صدقاً وإنما لأنها تبدو أقرب في ظل غياب الدولة العادلة.

في رؤيته، لا يكفي أن تُطرَح الهوية العراقية كشعار بل ينبغي أن تُجسَّد في بنية الدولة وفي الدستور وفي القوانين وفي التعليم وفي الخطاب العام.

ينبّه كذلك إلى خطر الخطابات التي تقدّس انتماءً واحدًا أو تصنّف المواطنين بحسب موروثهم الثقافي أو الديني.

فحين تُختزل المواطنة في الانتماء تُفقد الهوية معناها ويتحوّل الوطن إلى خريطة انقسامات لا عقد شراكة.

بهذا المعنى، لا تكون الهوية الوطنية نتاج إرث فقط بل مشروعاً تُسهم فيه الدولة بقدر ما يُسهم فيه الفرد، والاعتراف المتبادل بين الجماعات لا التغالب بينها هو ما يصنع المعنى العميق لكلمة “عراقي”.

أمين معلوف: حين يتعصّب الانتماء فيصبح قاتلاً

في كتابه “الهوية القاتلة” يقدّم أمين معلوف قراءة شديدة الإنسانية لمسألة الهوية حين تتحوّل إلى سجن، إذ يرفض اختزال الإنسان في انتمائه الديني أو القومي أو الثقافي ويرى أن الأفراد يحملون أكثر من هوية واحدة، وأن الخطر يبدأ حين تُختصر هذه التعدديات بهوية واحدة يُطلب من الفرد أن يُعرَّف من خلالها فقط.

ينبّه معلوف إلى أن الهوية حين تُربَط بالخوف أو تُستعمل للدفاع عن الذات ضد الآخر، تصبح مشروعاً للتعصب وربما للعنف.

ويتساءل: لماذا يشعر بعض الناس أن هويتهم في خطر ما لم يُلغوا الآخرين؟

ومن يربح في النهاية حين يُدفع الإنسان إلى الانغلاق على انتمائه؟

تجربة معلوف التي تجمع بين الثقافتين العربية والفرنسية منحته حساسية خاصة في التعامل مع الهوية، فهو لا ينظر إليها كشيء نقي أو ثابت، بل كمسار يتحوّل ويتشكّل.

ويقترح أن يُنظر إلى الهوية باعتبارها تراكباً لا تنافراً، وثراءً لا تهديداً.

ما يقدّمه معلوف ليس تنظيراً مجرّداً وانما دعوة لأن تكون الهوية إطاراً للعيش، لا وصفة للفرز.

جان فرنسوا بايار: الهويّة بوصفها خطاباً سياسياً

يبدأ بايار من نقطة تبدو للوهلة الأولى محرجة : الهويّة لا تُولد مع الإنسان ولا تُكتشَف في أعماق التاريخ، وانما تُصنع عبر الخطاب والمصلحة والسلطة .

في كتابه “أوهام الهوية” يحلّل كيف تتحوّل الهويات إلى أدوات تعبئة وإلغاء وصناعة “الآخر”.

فحين يُقدَّم الانتماء كحقيقة لا تُناقَش، يصبح أرضاً خصبة لخطابات التفوّق أو لسياسات التمييز.

يدرس بايار حالات مثل رواندا وإيران والبوسنة، ليُظهر أنّ أخطر ما في الهوية حين تُطرَح بوصفها “أصلاً” يعلو على الواقع. ذلك الأصل كثيراً ما يُفصَّل على مقاس السلطة أو الجماعة المهيمنة.

في العراق، تُطرَح هذه الرؤية بوصفها أداة مساءلة: كم من الانتماءات صيغت في لحظة خوف؟ وكم من الهويات شُكِّلت تحت وطأة الحرب أو الاحتلال أو الحاجة السياسية؟

حين يُساق مفهوم الهوية بعيداً عن التفاوض والتشارك يتحوّل إلى قيد. ومتى أصبح قيداً سقطت إمكاناته الجامعة وتحوّل إلى ساحة اصطفاف.

الهويّة، وفق هذه القراءات…

لا تُختصر بتعريف ولا تُستوعب بشعار. إنها مشروع ثقافي واجتماعي وسياسي يتطلّب إعادة تشكيل يومية، وما يُضعفها ليس كثرة الانتماءات بقدر افتقارها إلى عقد معنوي يُنظِّم تلك الانتماءات ويُشركها في مساحة جامعة.

بناء الهوية من دون الإلغاء

في السياق العراقي، تُفتح هذه الرؤى مساحات واسعة من التأمل: هل يمكن للهوية أن تُبنى من دون قلق الإلغاء؟

وهل يُتاح للناس أن يكونوا عراقيين من دون أن يُطلب منهم خلع انتماءاتهم الأخرى؟

ليس التحدّي في وجود التنوع بقدر أهمية إدارة هذا التنوع ضمن أفق العدالة. وحين تُدار الهويات بمفاهيم الخوف والتنافس، تنقلب من أدوات للانتماء إلى معاول للهدم والالغاء.

ان إعادة التفكير بتعزيز الهوية تكون من إدراك أنّ المواطن لا يُختصر في مذهبه أو قوميته، ولا يُقاس بإرثه التاريخي وحده. هوية العراقي تتكوّن في الحاضر وتُصاغ من خلال مشاركته في دولة تعترف به وتُصغي إليه وتُعامله كشريك.

السؤال عن الهوية في العراق، ليس سؤال النخبة وحدها، إنه سؤال يومي يعكس كيف نُعرِّف أنفسنا، وكيف نُعرِّف الآخر، وكيف نرى علاقتنا بوطن نحتاج فيه إلى تعزيز الولاء كهوية تجمع وتشفي جراحاته المتراكمة.

ما نحتاجه ليس إعلاناً جديداً وإنما مشاركة في الوعي وتكامل للاعتدال ونبذ لخطاب الكراهية والتطرف.

هوية تنمو من خلال الاعتراف، وتعيش داخل الاختلاف، وتتقوّى كلّما وجد الفرد نفسه في الجماعة من دون أن يُذوَّب فيها.

ذلك ما يجعل الهوية مشروعاً قابلاً للحياة لا نصّاً مغلقاً على الخوف ولا ميراثاً جامداً على الهامش.

العالم الجديد

https://al-aalem.com/opinion/الهوية-في-منعطف-الخوف-والأمل/