مفاتيح الطمأنينة.. الوقاية من التطيّر في التراث العراقي

2025/04/21

منتصر صباح آل شمخي الحسناوي

كان والدي يرمي قطعة نقود معدنية إذا مرّ أرنب في الطريق أمام السيارة، وكأنّه يصدّ عنه أثراً خفياً، ويتفاءل حين يرى واوي (ثعلب) يعبر الطريق. أيضاً حين وزّعت شتلات من شجر اليوكالبتوز على المزارعين بشكلٍ مجاني كبادرة للحرص على البيئة، رفض بعضهم زراعتها لأنّها تجلب الفقر!
قد يجد البعض تلك المواقف خرافات كما أعتقدها، لكنها مفردات من معجمٍ تراثي حي يقرأ العالم بطريقة مختلفة ويمنح لكل شيء دلالةً تتجاوز شكله.

عرفت الحضارات العراقية القديمة “التطيّر” بلغة الرموز قبل أن يوضع له اسماً، فالسومريون ربطوا حركة الغربان بقرارات الحروب، ودوّن الآشوريون نُذر الطوفان في لوح طيني حين رأوا أنواراً غير مألوفة في السماء، وكانت البومة رسولاً للغضب الإلهي والحنش (العربيد) علامة على اختلال ميزان البركة.

تحرّك صخرة بلا ريح، أو سماع صوت دون مصدر، كانت تؤخذ بوصفها مقدمات حتمية لأحداث كبرى. بهذا تشكّل التطيّر في العراق بوصفه جزءًا من الوعي الشعبي الموروث المبني على علاقة حساسة مع البيئة، إذ تُستقبل الإشارات من الكائنات والأصوات والأفعال العابرة لتُفسَّر ضمن منظومةٍ رمزية متوارثة.

هذه الرموز لا يمكن أن تُفهم على أساس ظاهرها وانما على ما تحمله من معانٍ أعمق من الحدث نفسه وقد تنعكس على القرار والسلوك في الحياة اليومية، ففي الزراعة، تُحمَّل بعض النباتات دلالات متناقضة، ففي الوقت الذي يُتحاشى البعض زراعة الصبّار في البيوت لأنّه “يجرّ الصبر” يزرع الريحان لجلب البركة، ويُرفض اليوكالبتوز أحياناً بدعوى أنه شجرة “تفقر الأرض” وكذلك الصفصاف خشية ما يرتبط به من دلالةِ حزن، أو شجر التين قرب المنازل لأنّه “ينمو على ضيق”.

وفي الطيور، تتعدّد الرموز وتتكثّف في الأصوات، إذ يُتطيّر من نعيق الغراب إذا سُمع قريباً من الدار، ويُعدّ صوته نذيراً للشؤم ويُرشق بالحجارة أحياناً لطرده. ويُخشى من طائر صغير يُسمّى “ططوة” لما في صوته من شبهٍ ببكاء امرأةٍ وفق اسطورة انها امرأة مسخت على شكل الطائر يُنذِر في الوعي الشعبي بحدوث مصيبة أو فقدٍ مفاجئ، حتى باتت كلمة ” ططوة” تطلق كنوع من التنمر على بعض الاشخاص الغير محظوظين. والبعض يحذر من الفقر عند تربية بعض طيور الزينة كطيور الحب أو الحمام مثلاً!

وبقية الحيوانات التي تعد نذير شؤم كدخول قطة ولا سيما السوداء إلى فناء البيت في ساعةٍ غير معتادة، أو سماع صوت الضبع وعواء الكلب ليلاً ولا سيما إذا تكرر قرب البيت. كذلك ظهور الأفعى داخل البيت تُعد رسالة تحذيرية. أما الخيول فتحتل موقعاً مركزياً في ثقافة التطيّر، تُراقَب نواصيها وتُقرأ نظراتها ويُستدلّ من حركتها على وجود خطر أو فأل حسن، لما ارتبط بها من حوادث أو نذور سابقة، لذا كان للخيل حضور يتجاوز المظهر، إلى ما يشبه الإدراك الغامض للغيب.

ولا تقتصر رموز التطيّر على الطبيعة بل تمتد إلى تصرّفات الناس أنفسهم، إذ تُفسَّر الأفعال المفاجئة على نحو رمزي كـ “كسر المرآة، سقوط الصور من الجدار ، تعثّر القدم قبل الخروج”. وللعطاس مواقف ما بين ان تكون شهادة تأكيد لموقف ما أو “عرضة” تستوجب التريّث في السفر أو مراجعة النيّة، اما إذا اصطدمت يد شخص بطرف الباب عند الخروج، أو سقط شيء من يده فجأة، يُعدّ ذلك دليلاً على عرقلة قريبة.

وللمرأة موقع مركزي في هذه المنظومة، الأم ترفض قصّ أظافر الأطفال بعد الغروب وتمنع طرق الملاعق بعضها ببعض، ولا تسمح ان يكون اتجاه بزبوز القوري باتجاه أحد الجالسين لأنه مجلبة للفقر، وتقرأ تغيّر الصوت في ضحكة طفلٍ على أنه إنذار مبكّر.

المرأة تحرس العتبة، وتراقب ترتيب الحذاء، وتُعيد ترتيب المواعيد إذا ما بدا لها في الحُلم ما يستوجب التريّث. تلك اقرب الى نظام من الفِراسة الأنثوية التي حافظت على التوازن في البيوت، قبل أن يُصاغ في النظريات النفسية.

أما التديّن الشعبي، فكان رحباً بما يكفي ليتّسع لهذه الرموز دون أن ينكرها، بعض العوائل لا تبدأ سفرها دون قراءة “يس” أو بعض الآيات، لكنهم يُؤجّلون الرحلة إذا سمعوا عطسة متقطعة في الممر. في هذا التداخل يتحوّل الدين إلى لغة رمزية تُطمئن الخائف، وتُبقي على مسافة بين الإيمان والقلق، دون أن تجرّمه أو تُلغيه.

ورث الناس هذه التأويلات وحوّلوها إلى إشارات التطيّر، وهي محاولة الإنسان حماية نفسه من العالم بإدراكٍ خاص يعكس تاريخه الطويل في مواجهة الغيب. هذه الإشارات تُقرأ ضمن سياقٍ طويل من التأويل الشعبي الذي لا يعتمد على الدليل بل على التجربة الموروثة والتي تختلف دلالتها بين الطبقات والبيئات.

في الريف يظل التفاعل مع الرموز أكثر حضوراً في القرار اليومي، بينما في المدن الكبرى يتراجع أثره الظاهر، لكنّه لا يختفي حتى بين الطبقات المتعلّمة، إذ يظهر أحياناً على شكل ملاحظة تُقال عفواً : “ما ارتحت له”، أو “ عارض خير إن شاء الله”. التطيّر لا يتحدّد بقدر المعرفة وإنما بعمق الجذر الرمزي في الوجدان الجمعي.

وهذه الرموز وإن بدت محلية فهي تتقاطع أحياناً مع ثقافات أخرى. فالرقم ”13” لا دلالة له بثقافتنا، في حين نجد أن مجتمعات أخرى تتفاءل بطائر البومه، و”العطسة” تعني لهم ذكر شخصٍ لك بالخير، وهناك مئات الشواهد على اختلاف الرموز والمعتقدات في موضوع التطيّر وهذا التنوع يكشف أنّه ظاهرة إنسانية عامة تتغيّر رموزها وتتماهى مع البيئة واللغة والأسطورة.

هذا الإرث الرمزي لم يظلّ جامداً، بل تغيّر تحت تأثير الحداثة، فالرموز القديمة بدأت تفقد سطوتها أمام التفسيرات العقلانية المعاصرة ، فالقط الأسود رمز النحس التقليدي صار يُربَّى في البيوت ويُدلّل، والبومة التي كانت تُخشى باتت رمزاً للحكمة في الديكور والمكتبات، والأفعى رغم رمزيتها الثقيلة أصبحت تُقتنى في البيوت كهوايةٍ غريبة أو تُعرض في فعاليات الحيوانات النادرة وتربى بالمزارع للوقاية من القوارض، وكذا الحال “للططوة” التي أصبح البعض يتفهم منافعها للتخلص من بعض الآفات الزراعية.

تأثّرت هذه التحوّلات بتغيّر الذوق العام والانفتاح على ثقافاتٍ متعددة وانتشار وسائل الإعلام التي قدّمت صوراً جديدة لتلك الرموز. ومع ذلك، بقيت الرموز القديمة حاضرةً في الذهن الشعبي تُستدعى في لحظات القلق أو الغموض وتُعبّر عن تراثٍ ما زال نابضاً تحت سطح الحداثة ليبقى مساحةً رمزية تعبّر عن طريقة الإنسان في قراءة محيطه والتفاعل مع ما لا يُفسَّر بسهولة.

هذه الرموز، بكل ما تحمله من حذرٍ ودهشة، تشكّل جزءًا من الهوية الثقافية التي تمنح تفاصيل تتجاوز الظاهر لتظّل حاضرة في الوعي وتتحرّك وقد تتغير مع الزمن، لكنها تبقى جذراً لا يُقتلع. وفي حالات التطيّر التي ذكرت نماذجها كثير من الممارسات الوقائية التي هي الاخرى جزءٌ مهم من المشهد والتي سنأتي على ذكرها لاحقاً.