نَّفَرْ، المدينة المُقدسة التي هَمست بها آلهة الماضي

2025/01/30

منتصر صباح آل شمخي الحسناوي

على بُعدِ عشرة كيلومترات من صخبِ المُدن وأسواقها وبؤسها، وَسط سهول العراق الوسطى، تَقف نّفَر بتسميتها العربية والتاريخية أو كما يُطلق عليها الغرب نيبور (Nippur)، المدينة التي لم تكن مجرد أطلال من الطين والحجر، بل مهداً للروحانية والسحر والأساطير

هنا حيث كانت الرياح تحمل أصوات الكهنة السومريين وهم يَهمسون بأدعيةٍ قديمة اعلى الزقورة في معبدِ إيكور (𒂍𒆳) الذي يربط السماء بالأرض وبين البشر والآلهة كأحد أهم المعابد في تاريخ بلاد الرافدين.

عندما تخطو بين أنقاض هذه المدينة فإنك لا تتجول بموقعٍ أثري مجرد ، بل بوابة إلى الماضي، حيث مُنحت الشرعية لملوك بلاد الرافدين، إذ كان يُعتقد أن نّفَر أهم معابد الإله إنليل إله الهواء والرياح والعواصف الذي ارتبط اسمه بأساطيرِ الطوفان وعقاب البشرية، لكنه كان أيضاً مصدراً للحماية والخصوبة الذي يرأس مجمع الالهة السومرية ويَمنح السلطة لحكم البلاد، فكان هذا المعبد أشبه بمفتاح السلطة الإلهية.

تَخيل كيف كانت هذه الأرض تَعج بالكهنة والعَرافين، وكيف كانت شعلة النار المُقدسة لا تنطفئ في زقورتها، هنا حيث يَلتقي الإنسان بالآلهة كتبت أولى صفحات العقائد والتقاليد التي استمرت لقرون.

تخيل أنك تنظر إلى الأفق نفسهِ الذي تأمله الكهنة وهم يقرؤون الطالع في النجوم.

تَخيل أنك تقف بمكانٍ وقف فيه موحد بلاد الرافدين "لوكال زاكيزي" وقادة أول امبراطورية بالتاريخ "سرجون الأكدي" و "نرام سين" و "أورنمو" وحتى "نبوخذنصر" ملك بابل لم يَستطع تجاوز هذا المكان على الرغم وجود الإله مردوخ.

-في هذه اللحظات- ستشعر أنك لم تَعد مُجرد زائر للمكان بل للزمان ايضا.

الزَمن فعل فعلتهِ فطمس الكَثير من ملامحِ هذه المدينة، إلا أن نَّفَر لا تزال تحتفظ ببقايا معابدها وزقورتها وأرشيفها الملكي، ولا سيما في القرن السابق إذ تم العثور على آلاف الألواح الطينية التي تحكي قصص الآلهة والتجارة والقوانين وحتى الحياة اليومية لسكانها.

بعيداً عن المسارات السياحية التقليدية أن تجربة زيارة نَّفَر توفر تجربة فريدة لمن يبحث عن استكشاف أماكن غير مألوفة، فالأماكن التاريخية جميلة لكن ليس في العالم ما يماثل هذا المكان قدماً ولا استمرار كمركز ديني منذ أكثر من 5000 عام، فإذا كنت من عشاق الحضارات القديمة، فلن تجد مكاناً يروي لك أساطير سومر وآلهتها مثل نَّفَر.

نَّفَر ليست مجرد موقع أثري، إنها قصة تروى عبر الزمن وتنتظر من يعيد اكتشافها...