العَـلَـمُ: هُويّةٌ تُرفَـعُ

2025/06/16

منتصر صباح آل شمخي الحسناوي

العَـلَـمُ قطعةُ قماشٍٍ وعدّة ألوان تزيّنُ منصة أو فوق مبنى، تختزل التاريخ برمزية وجدانية وتمثل سجلّاً موجزاً لهُوية شعب وآماله وجراحه ومصيره المشترك.

حين يرفرفُ عَلمُ بلدٍ ما تتحرك الذاكرة الجمعية ويتجسّد حضورُ الوطن في صورةٍ واحدةٍ بسيطة، لكنها مفعمةٌ بالمعاني.

في ربيع عام ٢٠١٦، كنا وفداً عراقياً نشارك في مؤتمرٍ عربيٍ احتضنتهُ مدينةُ شرمِ الشيخ.

ضمَّ الوفدُ أكثرَ من ١٥٠ شخصيةً تمثلُ طيفاً واسعاً من العراق، وفي صورةٍ جماعيةٍ كان يُفترض أن تُوثقَ اللحظة، لاحظتُ ابتعادَ بعضِ الإخوة من المكوّن الكردي عن المشهد، فيما أصرّ آخرون منهم على حمل العَلم العراقي، منعاً منهم للإحراج من زملائه، فاقتربتُ بمحبةٍ وسألتُ أولئكَ المتنحّين عن السبب، فأجابوا، بحزنٍ لا يخلو من صدق: “هذا العَلَم هو من هجّرنا يوماً وآذانا”.

قلتُ بلطف: “ألم نجتمع اليوم؟ ألم نأكل ونشرب معاً؟ نحن أبناءُ وطنٍ واحد، فليس العَلمُ هو من ظلمنا، إنما كان شاهداً على مراحل قاسية، عانينا منها جميعاً، عرباً وكرداً وتركماناً وسنةً وشيعةً ومسيحيين وصابئة.

هذا العَلم هو بيتُنا الرمزي الذي يجمعنا بمحبة، ومَن يهينه، كأنّما يركلُ جدارَ بيته، احترامهُ من احترامنا لأنفسنا”.

في اليوم التالي، كان أولئكَ الإخوةُ في مقدّمة الحاضرين، حاملينَ العَلمَ ذاته الذي أبعدهم بالأمس، وطلبوا أن نعيدَ اللقطة.

هكذا أدركتُ أنّ احترام العَـلَـم هو فعلُ مصالحة، وبوابةُ اعترافٍ متبادل، ومظهرٌ من مظاهرِ بناءِ الهويّة الجامعة.

العَـلَـم في تاريخ البشرية تطوّر ليحمل دلالاتٍ سيادية، وهوياتٍ حضارية، وشيفرات وجدانية. ففي العصور القديمة، استخدمت الإمبراطوريات رموزاً وألواناً تعكسُ معتقداتها أو جبروتها، لتتطورَ في العصر الحديث، أن يكون لكل دولةٍ علمٌ وطني يمثلها، وما تحتويه من رمزيات، وأحياناً جراحها التاريخية.

العَـلَـمُ العراقي، مرّ بتحولاتٍ عدّة عكست تغيرات السلطة والسياسة والظروف، بدءاً من عَلم المملكة عام ١٩٢١، إلى علم الجمهورية الأولى، فالثانية، وصولاً إلى النسخة الحالية التي اعتُمدت عام ٢٠٠٨، التغييرُ كان بالشكل وفي الدلالة أيضاً، مما جعل البعض يربط بين العَلم والنظام السياسي السائد، ويغفلُ عن كونه رمزاً للدولة لا للحاكم.

لكن ما يلفتُ النظرَ اليوم، ويثير القلق أحياناً، هو ما آلَ إليه وضعُ العَلم في الحياة العامة. إذ بُتنا نشهدُ ظاهرةَ تضييعه وسط زحام الرايات الأخرى: تُرفع إلى جانبه أعلامٌ لشركاتٍ أو مؤسساتٍ أو حتى عشائرَ، في مشهدٍ يُربك الرمزَ الوطني ويشوّش عليه أمامَ رموز فرعية.

فالعَلم الذي يُفترض أن يكون سيّد المشهد، صار أحياناً واحداً من بين عشرات الرايات المرفوعة، حتى يكاد يُفقد مكانته ومهابته في بعض الفعاليات أو الأمكنة التي يُوضع فيها.

هذا التراجعُ في الترتيب الرمزي يمثل خللاً بروتوكوليّاً، ويُشير إلى تراجع في الإحساس بالهويّة الجامعة، وازدياد النزعة نحو الفخر الفئوي على حساب الشعور الوطني.

والحال، أنّنا ما لم نضع “عَلَمنا” في مكانه الطبيعي فوق الجميع، سنظلُّ نبحثُ عن هويةٍ لا تتشكّل، وهذا ما لا يريده أيّ عراقي لنفسه أو لبلده.

فلعَـلَم العراق قوانين وتشريعات، قد لا يعرفها كثيرون، نصّها القانون على كيفية رفع العلم، ومتى يُنكّس، وما الأماكن الرسمية التي يجب أن يظهرَ فيها، كما يحددُ العقوبات المترتبة على إهانته أو استخدامه بشكلٍ غير لائق. ورغم وضوح هذه القوانين، فإنَّ هناك الكثير من المخالفات الشائعة، سواء بوضع العلم بشكل خاطئ على واجهات المباني، أو استخدامه في الإعلانات التجارية، أو رفعهِ إلى جانب رايات لا يجوز قانوناً أن تُساويه.

احترامُ العلم أن نعرف متى نرفعه، وأين نرفعه، ولماذا نرفعه، وفي أن نعلّمه لأبنائنا كجزءٍ من منظومة الانتماء.

وهنا، ليس المطلوب من كل مواطن أن يرفعَ العلم فوق بيته، إنما أن يحمل تلك المهابة له في ضميره، أو في لحظة الصمت عند رفعه، لتتحوّل إلى درس في المواطنة.

وعندما نتحدث عن “هويّة جامعة”، نعني تلك الهويّة التي لا تذيب الفروقات أو تفرض لوناً واحداً على الجميع، إنما هوية تعترف بالتعدد، وتسمح بالتنوّع، تحت ظلِ سقفٍ رمزي مشترك اسمه الوطن، والعَـلَـم هو التجسيد البصري لهذا السقف.

فالعَـلَـم الذي نحملهُ في المناسبات، ونضعهُ فوق التوابيت، ونرفعهُ في المسيرات، ليس مُلكاً لحزبٍ أو طائفةٍ أو حقبةٍ زمنية، بل هو ملكُ الشعب كلّه من أجل ذلك، علينا أن نُعيدَ قراءته كوثيقةٍ وجدانية، وخريطةٍ معنوية، وسردٍ رمزيّ لما كنّاه وما نصبو أن نكونه.

ومن لا يحترم عَـلَـم بلاده، سيفقد بوصلته في زحمة الهويات المتصارعة، ومن يظنُّ أن الانتماء للعَـلَـم ضعف، فليتأملَ في الأمم التي قاتلت تحت راياتها، وبنت حضاراتها في ظلالها، ووقفت لشهدائها وهم يُلفّون بها، والعراق مثالٌ أعلى لذلك.

فتلك هي الهُوية الجامعة… وتلكَ هي القصة التي علينا أن نرويها لأطفالنا.

https://www.almowatennews.net/مقالات/الع-ـل-ـم-ه-وي-ة-ت-رف-ـع