رِحلة الهويّة

2025/07/24

منتصر صباح آل شمخي الحسناوي

عندما كان الإنسانُ يخطُّ حروفَه الأولى على ألواحِِ الطينِ في سومر وأكد وبابل، لم يكن يعرفُ كلمةَ "هويّة" كما نعرفُها اليوم، كانت مكتوبةً على.شكل 𒋗𒈨 (šu-me) بالسومرية، أو 𒋗𒈬 (šumu) بالأكدية، تعني "الاسم" ذاك الذي يمنحُ الكائنَ وجودَه ويميّزُه عن سواه.

في أسطورةِ گلگامش، عند سؤال البطلِ عن "اسمِه المكتوب" في الألواح، كان يبحثُ في الحقيقةِ عن هويّتِه، عن أثرِه الذي يجعلُه هو، لا مجرّدَ ظلٍّ يمرُّ على الأرض.

في مِصرَ القديمة، كان للفردِ ren، الاسمُ السريُّ الذي يحفظُ وجودَه حتى بعدَ موتِه، ويكادُ يكون جزءًا من روحِه، إلى جانب ba وka، النفسِ والروحِ اللتين تتركان الجسدَ لكنّهما تحتفظان بجوهرِه.

هنا، لم تكن الهويّةُ فكرةً فلسفية، بقدر ما تمثله من الشعور بالخوفِ من أن تذوبَ ذاتُك في المجهول إن فقدتَ اسمَك وصورتَك وحقيقتَك.

مع الإغريق، ارتقت الفكرةُ إلى منطقِ العقل، إذ صاغ أرسطو المبدأَ الأشهر: "كلُّ شيءٍ هو ما هو"، وعُرف باليونانية باسم ταυτότης (tautotēs)، أي التطابق مع الذات.

ظلَّ هذا المبدأُ حجرَ الأساسِ في الفكرِ الغربيِّ كلِّه حتى ترجمه الرومانُ إلى اللاتينية بكلمة identitas، المشتقّة من idem أي «نفسُ الشيء»، وصارت هذه الكلمةُ أمًّا لكلِّ مفردات الهويّةِ في اللغاتِ الأوروبية الحديثة:

identity بالإنكليزية، identité بالفرنسية.

في الشرقِ الأقصى، انشغل الفلاسفةُ بالذاتِ أيضاً وإن بوجهٍ آخر، في الهند، كانت ātman (आत्मन्) تعني الذاتَ الحقيقية التي يجب أن تدركَها لتتحرر.

وفي الصين، استعملوا zìjǐ (自己) للدلالة على الذاتِ الفردية.

لكنها بقيت دائماً في علاقةٍ مع المجتمعِ والكون لا كجوهرٍ مستقلّ.

أما حين حمل العربُ كتبَ المنطقِ الإغريقي إلى بغداد ودمشق وقرطبة، احتاجوا إلى كلمةٍ عربيةٍ تحمل معنى " identitas" التفتوا إلى الضميرِ «هو» الذي اختزلَ منذُ البدءِ كينونةَ الشيء وصاغوا منه كلمةَ "هويّة" على وزنِ "فعلية" لتدلَّ على كونِ الشيء "هو هو" لا غير.

بقيت هذه الكلمةُ في التراثِ الفلسفي للدلالةِ على الذاتيةِ والتطابق.

ومع تطوّر الفكر، راحت الهويةُ تتشحُ بألوانٍ جديدة. قال ديكارت: ego cogito, ergo sum — "أنا أفكر إذن أنا موجود"، رابطاً الهويةَ بالوعي.

ورأى هيغل أن الهويةَ جدليةٌ تتشكّل في صراعِ الذاتِ مع الآخر، بينما حوّلها سارتر إلى مشروعٍ حرّ يختاره الإنسانُ بنفسِه.

في الدّيانات، اتخذت الهويةُ مظهراً روحيّاً وأخلاقيّاً. ففي اليهودية، تجلّت الهويةُ كدلالةٍ قوميةٍ ودينيةٍ تشكّل نواةَ وجودهم

وفي المسيحية، أشار بولس إلى "الإنسانِ الجديد"، أي الذاتِ المتجددةِ بالإيمان.

وفي الإسلام، وإن لم تُذكر الكلمةُ نصّاً، عبّرت مفاهيمُ مثل الفطرة و"صبغةُ الله" عن ذاتِ الإنسانِ التي خُلق عليها.

ثم جاء القرنُ العشرون لينفجرَ فيه المصطلحُ في كلِّ اتّجاه.

في علم النفّس، تحدّث إريك إريكسون عن identity crisis (أزمةِ الهويّة) حين يبحثُ الإنسانُ عن ذاتِه وسطَ التغيّرات.

وفي علم الاجتماعِ والأنثروبولوجيا، ظهرت مصطلحاتٌ جديدة:

cultural identity (الهوية الثقافية)،

national identity (الوطنية)،

gender identity (الجندرية)، digital identity (الرقمية)،

collective identity (الجمعية).

ومع السياسة، ظهر تعبيرُ identity politics (سياسات الهوية)، حين تحوّلت الهوياتُ العِرقيةُ والدّينيةُ والجندريةُ إلى أدواتِ نضالٍ وصراع.

في ما بعد الحداثة، صار الحديثُ عن الهويّةِ أكثرَ تعقيداً: لم تعد جوهراً ثابتاً، بل بناءً اجتماعيّاً، أحياناً وهماً، كما أشار "فوكو وبودريار".

وهكذا، من نقشٍ سومريٍّ صغيرٍ يحملُ šumu إلى خطاباتِ الأمم المتحدة عن identity politics، ظلّ الإنسانُ يسألُ السؤالَ نفسَه بألفِ لغةٍ: "من أنا؟ ومن نحن؟".

تغيّرتُ الأسماء وتبدّلت الأزياءُ، لكن المعنى ظلَّ حيّاً : أن يبقى الإنسانُ وفيّاً لنفسِه، مميزاً بما يربطُه بغيرِه وما يبعدُه عنهم، ثابتاً في قلبِ العاصفة.

https://al-aalem.com/opinion/رحلة-الهويّة/