صمود الهوية امام العولمة

2025/04/03

منتصر صباح آل شمخي الحسناوي

في زحمة العالم الحديث وأمام قوة العولمة التي تشبه المدّ، تقف بعض الشعوب كالجزُر التي لا تذوب، بل تتماسك أكثر، وتتحول هويتها إلى مصدر إلهام وتمايز.

إنها شعوب فهمت أن الخصوصية الثقافية ليست عبئاً بل رأس مال رمزي، وأن الحفاظ على الهوية لا يتكامل مع الحداثة إذا أُدير بذكاء.

التكنولوجيا لا تمحو الطقوس

في اليابان حيث التطور التكنولوجي والابتكار الذي لا يعرف نهاية، ما زال اليابانيون ينحنون احتراماً ويلبسون الكيمونو في المناسبات ويحتفلون بأعيادهم التقليدية كما فعل أجدادهم.

هذه البلاد، التي انفتحت على العالم بعد عزلة طويلة اختارت أن تدخل الحداثة دون أن تتخلى عن جذورها.

من خلال التعليم والإعلام والأدب، زرعت في الأجيال الجديدة فهماً عميقاً للثقافة اليابانية لا بوصفها إرثاً جامداً، انما كنمط حياة يمكن أن يتطور دون أن يفقد ذاته.

التصدير الثقافي كوسيلة دفاعية

قصة كوريا الجنوبية تثير الإعجاب في هذا الشأن، بلد خرج من حرب أهلية مدمرة وبدأ رحلة بناء اقتصادية وثقافية مذهلة.

في بداية الألفية أدركت الحكومة الكورية أن الحفاظ على الهوية لا يكون فقط بالدفاع، انما بالهجوم الثقافي الناعم.

أطلقت استراتيجيات لدعم الصناعات الثقافية (الدراما، الموسيقى، السينما)، فظهرت ظاهرة الـK-pop والدراما الكورية التي اجتاحت العالم.

لكن المفارقة أن هذه المنتجات، رغم عالميتها كانت تحمل في طياتها روحاً كورية خالصةتحتوي ” اللغة، الطعام، التقاليد، الرموز”.

لقد جعلت كوريا من هويتها سلعة فنية قابلة للتصدير وأكسبت شبابها ثقة كبيرة بثقافتهم.

اللغة خط الدفاع الأول

في قلب أوروبا، ورغم الانفتاح على كل شيء تصر فرنسا على خصوصيتها الثقافية.

تقاوم إدخال الكلمات الإنجليزية في إعلامها الرسمي وتفرض على الأفلام الأجنبية أن تُعرض بدبلجة فرنسية، وتملك مؤسسة أكاديمية تُعنى بحماية اللغة.

قد يفهم البعض ان ذلك غطرسة ثقافي لكن الواقع هو إيمان عميق بأن اللغة ليست وسيلة تواصل فقط، بل حافظة للهوية.

وقد يكون من المدهش أن نرى هذا القلق من الذوبان في دولة كانت مركزاً للثقافة الغربية نفسها لكنه قلق ناضج يحمي الجذور من التآكل الصامت.

التنوع كقوة لا كتهديد

الهند بلد لا يعرف التجانس البسيط “لغات متعددة، أديان، طوائف، أزياء، أطباق…” ومع ذلك، استطاع أن يصنع من هذا التنوع هوية هندية جامعة، دون أن يلغي الفروقات.

لقد قَبِل المجتمع الهندي بأن يكون “متعدداً من الداخل”، وصاغ لنفسه نموذجاً فريداً، أن تكون هندياً لا يعني أن تتحدث لغة معينة أو تنتمي إلى دين بعينه، انما تؤمن بأن هذا التنوع ذاته هو جوهر الهوية.

وهذا النموذج يحمل درساً ثميناً للعراق الذي لم يستثمر تحويل التعدد إلى مصدر قوة.

من هذه التجارب وغيرها الكثير يمكن استخلاص الكثير من دروس التي يمكن أن تُثري النقاش العراقي حول الهوية ونبدأ من حيث انتهى الناجحون في هذه التجارب كتعزيز اللغة واللهجات المحلية بتنوعها بمشاريع تعليمية وثقافية تُعيد للغة العربية (والكردية والسريانية والتركمانية) بريقها وهويتها

دعم السينما، المسرح، الموسيقى، يمكن أن يكون وسيلة لتقديم العراق من الداخل إلى العالم، بدلاً من استيراد أنماط غريبة لا تعبّر عن البيئة المحلية.

استثمار التنوع كجزء أصيل من الهوية، يمكن أن ننتقل من مرحلة “الاختلاف الصدامي” إلى “الاختلاف المنتج” ما دام الإطار الجامع يُعلي من قيمة العراق كوطن وهوية.

إن الهوية الوطنية ليست وصفة جاهزة، بل بناء طويل ومعقد يتطلب تضافر الجهود. التجارب العالمية قد لا تصلح للنسخ، لكنها تصلح للإلهام.

ما تحتاجه الهوية العراقية اليوم ليس الانغلاق ولا الانبهار، بل وعي هادئ متزن يُدرك أن الهوية القوية تدخل العالم بثقة وببصمة واضحة .

ولعلّ أهم ما يمكن أن نتعلمه من تلك التجارب هو أن الهوية لا تُفرض بالقوة ولا تُحفظ عبر الشعارات فقط، بل تُبنى عبر مشروع ثقافي يومي يتغلغل في تفاصيل الحياة ويعزز الإحساس بالفخر والثقة بالنفس. فكما جعلت كوريا فنّها لسان حال ثقافتها، وكما جعلت اليابان من طقوسها اليومية رسالة للتمسك بالجذور، فإن العراق يحتاج إلى نهضة ثقافية ذكية تُعيد ترتيب الأولويات.

وفي ظل التحديات التي واجهها العراق من احداث متتالية ، فإن الهوية العراقية إن لم تُصغَ بعناية، ستبقى عرضة للشدّ والتفكك. لذلك فإن ربط التجارب العالمية بسياقنا المحلي لا يعني التقليد، بل يعني اكتشاف أدوات جديدة لتعزيز الهوية، وصياغتها بشكل معاصر قادر على مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين دون أن يفقد ملامحه الأصيلة.

العالم الجديد

https://al-aalem.com/opinion/صمود-الهوية-أمام-العولمة/