البصمة المائية ومواجهة أزمة المياه في العراق

2025/02/22

منتصر صباح آل شمخي الحسناوي

عندما نفكر في العراق، تتبادر إلى الذهن صور دجلة والفرات، شرياني الحياة اللذين لطالما منحت مياههما البلاد الخصب والحياة. لكن تلك الصورة المثالية أصبحت جزءاً من الماضي. اليوم، يواجه العراق أزمة مياه تهدد أمنه الغذائي وتهدد هوية شعبه الزراعية والثقافية. لم تعد هذه مجرد أزمة موارد بل أصبحت اختباراً حقيقياً لوعي المجتمع وقدرته على مواجهة التحديات.

عرف عن العراق انه بلد زراعي يعتمد على خصوبة أرضه ومياهه الوفيرة، لكن مع مرور الوقت، بدأت التحديات تظهر بقوة، التغيرات المناخية التي قللت من كمية الأمطار والسدود التي شُيدت في دول المنبع كلها عوامل أدت إلى انخفاض حاد في تدفق المياه. ومع نمو السكان وتزايد استهلاك المياه غير المدروس أصبح الحفاظ على كل قطرة ضرورة ملحة.

هنا يأتي دور مفهوم “البصمة المائية”، الذي يُعدّ مرآة حقيقية لاستهلاك المياه سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.

في أرض العراق الزراعة ليست مجرد قطاع اقتصادي، بل هي جزء من الهوية الوطنية، ومع ذلك فإن هذا القطاع هو الأكبر استهلاكاً للمياه إذ يستخدم حوالي 70% من المياه المتاحة.

خذ على سبيل المثال محصول الرز، الذي يُزرع في مناطق مثل النجف والديوانية. للحصول على كيلوغرام واحد من هذا المحصول نحتاج إلى أكثر من 2,500 لتر من الماء.

أما النخيل، وهو رمز حضاري واقتصادي للعراق، فيستهلك كميات كبيرة من المياه ولا سيما باستخدام الري التقليدي، قد تستهلك النخلة الواحدة ما يزيد عن 80000 لتر سنوياً لإنتاج محصول جيد من التمر لكن مع استخدام أنظمة الري الحديثة مثل الري بالتنقيط يمكن خفض هذا الاستهلاك بنسبة تصل إلى 50-60%، ليصل إلى اقل من 40,000 لتر سنوياً.

وفي حقول الحنطة، التي تُعد المصدر الأول للأمن الغذائي للعراقيين، نحتاج إلى حوالي 1,500 إلى 2,000 لتر من الماء لكل كيلوغرام. أما الأشجار المثمرة مثل البرتقال والرمان والزيتون فتتطلب حوالي 500 إلى 1,000 لتر لكل كيلوغرام من الفاكهة.

المنتجات الحيوانية تُعد من أكبر المستهلكين غير المباشرين للمياه. لحم الأبقار يتطلب حوالي 15,000 لتر من الماء لكل كيلوغرام، ولحم الغنم حوالي 10,000 لتر، بينما يُعد لحم الدجاج الأقل استهلاكاً بحوالي 4,000 لتر لكل كيلوغرام.

في حياتنا اليومية، يستهلك كل نشاط بسيط كميات كبيرة من الماء. الاستحمام وحده قد يستهلك حوالي 50 إلى 100 لتر لكل مرة، بينما يُهدر غسل المرحاض حوالي 10 لتر لكل استخدام، حتى غسل الأطباق قد يصل استهلاكه إلى ما بين 20 و50 لتر، بينما غسل الملابس يستهلك حوالي 40 إلى 80 لتر لكل دورة.

تنظيف الأسنان مع ترك الصنبور مفتوحاً قد يُهدر ما بين 10 و20 لتر لكل مرة.

عندما نجمع كل هذه الأرقام، نجد أن البصمة المائية اليومية للفرد العراقي قد تصل إلى ما بين 4,000 و8,000 لتر، تشمل المياه المستخدمة بشكل مباشر وغير مباشر ولا سيما اذا علمنا ان كوب قهوة واحد يتطلب حوالي 140 لتر من الماء لإنتاجه.

في الولايات المتحدة متوسط البصمة المائية يصل إلى حوالي 7,800 لتر يومياً بسبب الاستهلاك المرتفع للحوم ومنتجات الألبان، بالإضافة إلى الاستخدامات المنزلية الكبيرة.

في الهند أقل نسبياً حوالي 3,000 إلى 4,000 لتر يومياً بسبب الأنماط الغذائية النباتية في الغالب وتقليل استهلاك المياه في الحياة اليومية.

اما في أوروبا الغربية: تتراوح البصمة المائية للفرد بين 4,500 إلى 6,000 لتر يومياً، مع تفاوت بين الدول بحسب العادات الغذائية والصناعية.

بينما نجد الدول الإفريقية، ولا سيما الفقيرة قد تنخفض البصمة المائية اليومية للفرد إلى 1,500 إلى 2,500 لتر بسبب قلة الموارد الغذائية وندرة المياه.

التقنيات الحديثة الحل الامثل إذ اصبحت ضرورة لا غنى عنها، أنظمة الري بالتنقيط، التي تعمل على توصيل المياه مباشرة إلى جذور النباتات بكميات دقيقة، تُعد من أكثر التقنيات فاعلية. على سبيل المثال، في أحد المشاريع الزراعية الحديثة في العراق، ساهم استخدام الري بالتنقيط في تقليل استهلاك المياه بنسبة 60%، مع زيادة الإنتاجية بنسبة 20%.

تُستخدم أيضاً تقنيات استشعار الرطوبة في التربة لقياس الحاجة الفعلية للنباتات للماء، مما يمنع الإفراط في الري. في إحدى المزارع التجريبية، أدى استخدام هذه التقنية إلى توفير حوالي 30% من المياه المستخدمة مقارنة بالري التقليدي.

في مواجهة كل هذه الأرقام الصادمة، تبدو الحاجة إلى التغيير واضحة واهمية التوعية على تغيير الأساليب التقليدية في استهلاك المياه.

فالتحول إلى أنظمة ري حديثة مثل الري بالتنقيط يمكن فهو ضرورة ملحة تقلل النسبة الاكبر من هدر المياه بشكل كبير فضلاً عن زراعة محاصيل أقل استهلاكاً للماء هي خطوة أساسية أخرى، ايضاً تقليل الهدر الغذائي له تأثير كبير، فكل طعام يُهدر يعني ضياع كميات هائلة من الماء. والأهم من ذلك، رفع الوعي بأهمية الحفاظ على المياه في المنازل وإصلاح التسريبات واستخدام الأجهزة الموفرة.

“الماء هو الحياة” هذه ليست مجرد عبارة بل حقيقة تُترجم يومياً في حياة العراقيين دون وعي جماعي وإدارة ذكية للموارد لن يكون من السهل مواجهة التحديات الحالية، ولنتذكر أن كل قطرة تُهدر اليوم قد تكون الفارق بين الحياة والجفاف غداً، لكن مع خطوات بسيطة وجهود مستمرة، يمكن للعراق أن يستعيد دوره كبلد الرافدين حيث الماء رمز الحياة والخصب.

الماء بين أيدينا، والمستقبل أيضاً.