ترَّييف المُدن

2025/01/04

منتصر صباح آل شمخي الحسناوي

كانت مشكلةُ الهجرةِ من الريف إلى المدينة من المشكلات التي تواجهُ القطاع الزراعي، هذا ما درسناه في مناهج الدراسة قبل ثلاثةِ عقود، وكانتْ تُطرح أيضاً أهمية توفير الخدمات والبنى التحتية وتطوير الزراعة للحدِّ من الهجرة. اليوم نعيشُ ظاهرة ترَّيف المُدن ك"واقع حال" ، إذ تتأثرُ المناطق الحضرية بنمطِ حياةٍ يُحاكي الريف من حيث السلوكيات والأنشطة الاقتصادية، وحتى طبيعة البنية التحتية. لا شك أن للريف قيّماً وعاداتٍ اجتماعية يرتبطُ بها سلوكٌ متلائم مع البيئة التي تنتمي لها وهي جزءٌ من الهويةِ الوطنية التي نعتّزُ ونفتخرُ بها، لكنَّ كثيراً من العوامل المرتبطة بها لا تتلاءم مع المدينة حتماً، فتخطيط المدن في العالم يقوم على خطط مدروسة على أساس أعداد السكّان ومستوياتهم الاقتصادية تُقسم فيها وظائفُ المدينة من المناطق السكنية إلى التجارية بتنوعها والسياحية والصناعية بل إن التخطيط شمل الريف أيضاً. في حين نلاحظ الانتشار العشوائي للسكن داخل كثيرٍ من المُدن في العراق مع ظاهرة تقسيم المساكن وانعدام الحدائق المنزلية وظهورِ أحياءٍ غيرِ منظّمة في أطرافها ، وما يرتبطُ بذلك من أسواقٍ شعبية تأخذ طابعاً غير منظّم وذلك بمجملهِ يعملُ على تدهور البنية التحتية وعدم كفاية الخدمات العامة كالصرف الصحي والنقل العام، مما يُظهر المدن بشكلٍ غير منتظم . بالتأكيد، الأمرُ لا يتعلق بتغيّرِ أسلوب السكن وشكله بل أن كثيراً من العادات الدخيلة على المجتمع الريفي نفسه، باتت تنتشرُ في المدن ومنها على سبيل المثال " الگوامة والفصول الخيالية وامتهان الكثير لوظيفة "الشيخ" وانتشار الدواوين العشائرية بشكلٍ مفرط داخل المدن فضلاً على التجمعات لأبسطِ المناسبات والولائم و ما شابه . وهنا قد يُنظر للإمر بايجابية لكنّ الواقع غير ذلك، فلكلِ بيئةٍ ما يلائمها من عاداتٍ وتقاليد، بل حتى الريف نفسه لا يمكن أن نتعاملَ معه كبيئةٍ واحدة فلكلِ مكانٍ ما يلائمهُ من عاداتٍ وتقاليد وهي تختلفُ باختلافِ البيئة الحاضنة للمجتمع وأيضاً الموروث الثقافي الخاص به. والمتتبع ُ سيجدُ مثلاً أن المرأة في ريفِ الفرات تختلف بطبيعةِ عملِها وظهورها عن المرأة في الريف الشرقي أو الأهوار أو المنطقة الجبلية. وكذلك كثير من التقاليد و هذا الأمر ينطبقُ أيضاً على المدينة ناهيك َعن الكثير من المشكلات الاجتماعية . ترَّيفُ المُدن في العراق لم يحدثْ من فراغ، بل هو نتاجُ تفاعلٍ بين مجموعة من العوامل أنتجت النُزوح السكّاني غيرِ المخططِ له، بسبب تدهور الأوضاع والحروب والأوضاع الأمنية وما رافقها من تدّني في الاقتصاد الريفي وبالتالي قلة فرص العمل وظهور البطالة وارتفاع نسب الفقر ولا سيما مع شُحِّ المياه والتغيّرات المناخية التي زادتْ من مساحات تصّحر الأراضي الزراعية وما رافقَ ذلك من نزاعاتٍ وصراعاتٍ محلية، ساهم كلُّ ذلك في خلقِ وضعٍ غيرِ مستقر في الريف أنتج الهجرةَ للمدن . المُدن العراقية لم تكن مهيأة لاستيعاب الأعداد المتزايدة من السكّان ومع غياب السياسات التنموية الفعّالة جعلها تتحول إلى تجمعاتٍ سكانية غير مخططة. وبطبيعةِ الحال، فإنَّ المهاجرين من الريف يحتفظون بتقاليدهم في المدن، مما يجعل الطابع الريفي يغلبُ على العديد من المناطق الحضرية. بالنتيجة ترَّيف المُدن في العراق ليس مجرد ظاهرة عمرانية، بل هو انعكاسٌ لأزماتٍ اجتماعية واقتصادية عميقة. الحلُّ يتطلبُ تكاملاً بين جهود الحكومة والمجتمع المحلي لتحسين حياة السكان في كلٍّ من الريف والمدينة وباتَ من الضروري تبني سياساتٍ تنموية مستدامة لإعادة التوازن بين الريف والمدن، والحفاظ على هوية المدن العراقية كحاضناتٍ حضرية متّطورة.

الدستور

https://www.addustor.com/content.php?id=57768&fbclid=IwY2xjawI7xnpleHRuA2FlbQIxMQABHfM7VlbZGC7SiHzezdvSsxew6anaXMKdE4PN2aOO2-1PCTd72qAZ_a5bPg_aem_k1kpZE2TzyVD54ecd8vLgg