الكاريزما الافتراضية
2025/08/19
منتصر صباح آل شمخي الحسناوي
منذُ أن وُلدت الكلمة في رَحم اللغة اليونانية القديمة، حَملت معها معنى العطاء والنعمة.
كانت “الكاريزما” تشيرُ إلى الهِبة الإلهية التي تُمنح للإنسان من محبةِ الله، لتمنحهُ نوراً خاصاً يميّزه بين الآخرين.
مع مرور القرون وتحوّل الحياة البشرية من فضاء الأسطورة إلى فضاء الاجتماع والسياسة، تغيّرَ المفهوم ليصبح علامةً على الجاذبية الشخصية، تلك القوة الخفية التي تجعلُ إنساناً ما قادراً على التأثير والإقناع من دون سَيفٍ ولا سلطة.
في المجالس والميادين القديمة، كان حضورُ القادة والأنبياء والزعماء يتكثّف في هيئة كاريزما محسوسة؛ لغة الجسد، قوة الصوت، عمق النظرة،قدرة الخطاب على شدّ النفوس.
إنها طاقةٌ إنسانيةٌ تتجاوز المنطق أحياناً لتسكن العاطفة والوجدان.
لكنَّ التحوّلَ الأشدَّ وقعاً بدأ مع دخول العالم الافتراضي إلى حياتنا: شاشةٌ صغيرةٌ أصبحت هي الميدان، والكلمات والصور والمقاطع صارت أدوات النفوذ الجديد "هنا وُلدت الكاريزما الافتراضية".
الكاريزما الافتراضية هي تلك الجاذبية التي يمارسها الإنسانُ عبرَ وسائط الاتصال الحديثة، لم يعد القائد أو المؤثر بحاجة إلى الوقوف في ساحة عامة ليحرّكَ الجماهير، فالفيديو القصير أو البث المباشر قادرٌ على أن يُحشّد ملايين النظرات في لحظةٍ واحدة.
والحضورُ الكاريزمي صار يُبنى على النبرةِ المسموعة، الصورة المصفّاة، وحتى اختيار الكلمات الموجزة التي تخترقُ ازدحام المنصات.
في هذا الفضاء، تتجلّى خمسةُ أبعادٍ أساسية للكاريزما الافتراضية.
أولها؛ القدرةُ على إدارة الانتباه وسطَ سيلٍ من الرسائل الرقمية.
وثانيا، خلقُ علاقةٍ شخصية رغم البعد، إذ يشعر المتابع أن الصوت موجه إليه وحده.
وثالثا، التأثير المباشر في السلوك والقرارات، سواء في الاستهلاك أو السياسة أو القيم.
أما الرابع، فهو إعادة تعريف القيادة، إذ صار المؤثرُ الافتراضي أكثرَ حضوراً من الخطيب التقليدي.
والخامس، مضاعفة الانتشار عبر المشاركة والإعجاب، حيث تتحولُ الكاريزما من خاصيةٍ فردية إلى طاقةٍ جماعية متداولة.
الذكاء الاصطناعي غيّر معادلة الكاريزما نفسها.
فمن جهة، صار بالإمكان توليد شخصيات افتراضية كاريزمية بالكامل، مؤثرين رقميين يملكون ملامح مصمَّمة ولغة محسوبة وجاذبية مبرمجة، حتى وإن لم يكن لهم وجود واقعي.
هذه الشخصيات نجحت في جمع ملايين المتابعين، وهو ما يكشف قابلية المجتمع للتأثر بالحضور المصطنع كما يتأثر بالحضور الحقيقي.
ومن جهة أخرى، أصبح الذكاء الاصطناعي أداةً لتعزيز الكاريزما البشرية. فهو يحللُ ردودَ فعل الجمهور ويقترح على القادة أفضل نبرة وأدق توقيت، ويمنح المؤثرين أدواتٍ لتحسين الصوت والصورة وصياغة الرسائل بطريقةٍ أكثر جذباً وبذلك تعمل على تخصيص المحتوى لكل متابع، فتخلق وهم القرب الشخصي وتضاعف الإحساس بالكاريزما.
ومع كل هذا، يقفُ المجتمع أمام سؤالٍ أخلاقي: هل ما نشهده اليوم هو امتداد للهِبة القديمة التي عُرفت بالنعمة، أم أننا ندخل عصراً تُصبح فيه الكاريزما منتجاً صناعياً يمكن هندسته برمجياً وامتلاكه بالمال والتقنية؟ بعضُهم يرى في ذلك خداعاً يفقد الشخصية حقيقتها، فيما يعتبره آخرون تحوّلاً طبيعياً في مسار التأثير الإنساني.
هكذا، تظهر الكاريزما الافتراضية بوصفها ابناً شرعياً لعصر الرقمنة، تحمل في طياتها وعداً بالقوة وخطراً بالوهم.
فهي مرآة تكشف حاجتنا المستمرة إلى من يقود انتباهنا ويؤثر في وجداننا، لكنها في الوقت ذاته تضعنا أمام احتمال أن تتحول “الهِبة” التي كانت يوماً "محبّة من الله" ، إلى سلعةٍ مصنوعةٍ في مختبرات الذكاء الاصطناعي.