أيهما أوضح لهوية العراق الرسمية: دستور اليوم أم الدساتير السابقة؟

2025/07/16

منتصر صباح آل شمخي الحسناوي

عندما نتحدّث عن المواطنة في المجتمعات البشرية، فإننا غالباً ما نستعرض مفاهيمَ الانتماء، والحقوق، والواجبات، والهوية، والحماية المتبادلة بين الفرد والدولة، غير أن هذا النموذج الإنساني المعقّد لا يبدو بعيداً عن العالم الفطريّ للكائنات الأخرى.

مملكة النحل تقدّم نموذجاً بالغَ الإتقان لمفهوم المواطنة في بيئةٍ لا تُجيد الخطابةَ ولا تضع دساتير مكتوبة، لكنها تطبّقُ روح العقدِ الاجتماعيّ بفطرة ودقةٍ تفوقُ كثيراً من الدول الحديثة.

ففي مملكةِ النحل، بمجرد ولادة الفرد من العين السداسية، يكون مواطناً بحقوقه وواجباته. ويُعتمدُ في عضويته داخل الجماعة على توفر “الهوية الكيميائية” التي تصدرها ملكة النحل (الأم) والمتمثلة بالفيرومون الملكي (الرائحة)، وهي بمثابة الجواز البيولوجي الذي يسمح للنحلة بالدخول إلى عالم الخلية والمشاركة في الحياة العامة.

كل نحلةٍ تحملُ هذه الرائحة الخاصّة تُعدّ من مواطني الطائفة، ويُفتح لها الباب للدخول والعمل. أما من يفتقدها، فلا مكان له بين الجدران الشمعية، ويُعدُّ تهديداً يجب ردعه وطرده خارج الخلية دون رجعة.

ولا تقتصر المواطنةُ هناك على نقطة الميلاد، فهناك استثناءات عند المشاركة بالنفع العام والواجب الجمعي. فالنحلة الغريبة إن أتت بنفع إلى الخلية، يُرحَّب بها، وإن أُمن جانبها حظيت تدريجياً بالقبول، ومُنحت جواز المرور والمواطنة، شرط أن تخلص للخلية لا لغيرها.

نعلم أن العاملات هنّ أساس الخلية، ينشأن على قيم العمل والانضباط والتضحية. تنطلق كلُّ واحدة منهنّ في عمرٍ مبكرٍ لتؤدّي دورها بحسب ترتيبٍ زمنيّ محدّد: من تنظيفِ الخلية، إلى رعايةِ اليرقات، وتنظيم درجات الحرارة والرطوبة، وتوليد التيارات، وكشف الخرائط والتخطيط، وبناء الشمع، وحراسة المداخل، وأخيراً جمعُ الرحيق وإنضاجه. لا أحد يُعفى من العمل، ولا توجد طبقةٌ متكاسلة محصّنة أبداً. فالمواطنةُ هنا “مسؤولية لا امتياز”.

حتى الحارسات عند مداخل الخلية، أولئك اللائي يقفن على أرجلهنّ الخلفية ويرفعن الأمامية، يتحمّلن عبء السيادة وحماية المجال الحيويّ للخلية. هنّ الشرطة، والمخابرات، وحماةُ الحدود في آنٍ معاً، يقمنَ بفحصِ كلّ من يقترب من بوابةِ الخلية عبر قرونِ الاستشعار، التي تلتقط رائحة الفيرومون لتقرّر إن كان الداخلُ مواطناً أم دخيلًا. فإن ثبت انتماؤه، أُجيز له العبور، وإن لم يحمل الشيفرة الصحيحة، يُمنع من الدخول، بل ويُقتل في الحال.

أما الخلايا التي فقدت ملكتَها، وأصبحت يتيمةً بلا هويةٍ فيرومونية، فتعيش قلقَ الفقد واللا انتماء، وتفقد معها قدرتها على تحديد من هو المواطن، ومن هو الدخيل.

وفي أحيانٍ نادرة، تتبناها خلايا أخرى منظَّمة، وتمنحُ أفرادها إقامةً جديدة بعد إعادة توجيههم نحو الفيرومون الملكي الجديد، لكن ليس قبل إخضاعهم للتأهيل، وربطهم بالعقد الجماعي الجديد. إنها أشبه بحالات التجنيس المشروطة بالولاء والعمل.

وما يثير التأمل أكثر هو نظام التعامل مع “اللاجئين المؤقتين” من العاملات، القادمات من خلايا أخرى وهنّ يحملن الغذاء. هؤلاء قد يُسمح لهن بالدخول المؤقت للاستفادة مما يحملن، في وضع شبيه بجواز الخدمة أو تصاريح العمل بين الدول. يدخلنَ، يُفرغنَ حمولتهن، ثم يُرحَّلن. وقد تكون بينهنّ من تحمل نوايا تجسّسية، تسعى لمعرفة الثروات المخزونة، وتعود بمعلوماتها إلى طائفتها، مما يؤدي إلى نزاعات حقيقية بين الخلايا، كما يحدث بين الأمم.

لكن المواطنة ليست عملاً وانتماءً فقط.. فماذا عن الذكور؟

ذكور النحل قصةٌ أخرى. يولدون ضمن الطائفة ويحملون هويتها، لكنهم لا يعملون، لا يشاركون في الحراسة، لا يجمعون الرحيق، ولا يبنون الشمع. يُسمَح لهم بكلّ شيء، ويأكلون من كلّ شيء، فقط لأنهم مرشحون لغايةٍ واحدة: تلقيح الملكة. فإن حظي أحدهم بهذه الفرصة، مات فوراً بعد التلقيح. وإن لم يُدعَ لها، عاش مستهلكاً عاطلاً حتى تأتي لحظة دق ناقوس خطر نفاد الغذاء، فتُعلن العاملات الثورة عليهم، ويُطردون شرَّ طردة من الخلية. عندئذٍ تُسحب منهم حقوقُ المواطنة، ويُلقَون خارج النظام الذي كان يُطعِمهم ويمنحهم الحماية. وكأن المواطنةَ هناك قابلةٌ للسحب إن انقلبت إلى عبء.

إن ما نشهده في مملكة النحل من توزيعٍ دقيقٍ للوظائف، وربطٍ مباشرٍ بين الهوية والمشاركة، وبين الحماية والعمل، يقدم نموذجاً بالغَ الاتساق لمفهوم المواطنة. لا أحد هناك يرفع شعار “حقوقي” إن لم يُؤدِّ واجباته. لا أحد يحصل على الامتياز إن لم يكن جزءاً من نسيج الجماعة.

بل إن الخلية لا تحتمل الفردانية العابثة. فكل فرد فيها جزء من جماعةٍ متراصة، إن مرضت واحدة، تأثرت الأخريات. وإن كسل البعض، عانت البقية. لذلك، تُعاقب الخلية أيَّ خروج عن التوازن، وأي محاولة لانتحال الهوية أو التسلّل أو الاستهلاك غير المبرّر.

تأملنا في هذا العالم لا يهدف إلى تمجيد النحل أو تقليد سلوكه الحرفي، بل إلى إدراك أن مفاهيمنا الكبرى – كالهوية، والانتماء، والمواطنة – ليست مجرّد شعارات، بقدر ما هي نظمٌ اجتماعية تحتاج إلى منظومةٍ من القيم والإجراءات التي تضمن دوامها وعدالتها.

فمَن يطلبُ حماية الدولة عليه أن يحميها، ومن ينعمُ بخيرات الوطن عليه أن يكدّ لدوامها، ومن يدّعي الانتماء عليه أن يحملَ شيفرته، لا ببطاقة هوية أو دفتر جواز، وإنما في سلوكه اليومي وولائه العملي.

في مملكة النحل، لا يُرفَعُ شعارُ المواطنة في المهرجانات، ولا يُكتب على اللافتات، لكنه يتمثل في العمل والتنظيم. وربما نحن بحاجة إلى هذه الفطرة المنظمة أكثر من حاجتنا إلى الكلمات الكبيرة.